للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

باب بَيان إِسْقَاطِ الهَدْي عن المرأة التي تَعْتَمِر ثُمَّ تَحِيْض يُفْسِدُ عمرتَهَا حَيْضُها وتُهِلُّ بالحجِّ ثمَّ تعتمر بعدُ، والدَّليل على إسقاط الهّدْي عن المُتَمَتِّع الذي يُفْسِدُ عمرته ويُهلُّ بالحَجِّ (١)


(١) استدلَّ المصنِّف بالحديث الآتي في هذا الباب على فساد عمرة الحائض، وبكلام هشام المدرج "ولم يكنْ فِي ذَلِكَ هَدْيٌ ولا صِيامٌ ولا صدقةٌ" على إسقاط الهدي عن من هذه حالته، وأنَّ عائشة لم تكن قارنة، وأنها لو كانت قارنة لوجب عليها الهدي للقران، وحمل قول النَّبِيّ لعائشة : "ارفُضِي عمرتَكِ"، على ظاهره، لكن الجمع بين الألفاظ المختلفة لحديث عائشة يقتضي أن حيضَها لم يُفسد عمرتَها، بل اضطرت إلى ترك أعمالها وإدخال الحج عليها، فأصبحت بذلك قارنة، ويظهر ذلك جليًّا من أحاديث الباب الذي يليه: ح / ٣٧٢٣، ٣٧٢٤، وأحاديث الباب: باب الدليل على الإباحة للمعتمر أن يضم إلى عمرته حجة إن اضطر إلى ذلك. . . ح / ٣٧٣١، ٣٧٣٢، ٣٧٣٣، كما سيأتي، حيث قال لها النَّبِيّ يوم النفر: "يكفيك طوافك لحجك وعمرتك"، وقوله : "أمْسِكِي عن العُمرة"، وأمَّا الهدْي فقد ثبت عن عائشة "أن النَّبِيّ ضَحَّى عن نسائِه بالبقر"، وروى مسلم (٢/ ٩٥٦) من حديث جابر "ذبح رسول الله عن عائشة بقرة يوم النحر"، فيحمل على أنَّه أهدى عنها من غير أن يأمرها بذلك ولا أعلمها به، وهذا الجمع اختاره جمع من المحققين منهم، القرطبي، والنووي، وابن حجر، وغيرهم.
قال القرطبي: "أشكل ظاهر هذا الحديث "ولم يكن في ذلك هدي" على جماعة، حتى قال القاضي عياض: لم تكن عائشة قارنة ولا متَمَتِّعة وإنما أحرمت =
⦗٢٨٠⦘ = بالحجِّ ثم نوتْ فسخه إلى عمرة فمنعها من ذلك حيضها فرجعت إلى الحجِّ فأكملتْه، ثم أحرمت عمرة مبتدأة فلم يجب عليها هدي، قال: وكأنَّ عياضا لم يسمع قولها: "كنتُ مِمَّن أهلَّ بِعُمرة"، ولا قوله : "طوافكِ يسعكِ لحجكِ وعمرتكِ"، والجواب عن ذلك أن هذا الكلام مدرج من قول هشام، كأنه نفى ذلك بحسب علمه، ولا يلزم من ذلك نفيه في نفس الأمر، ويحتمل أن يكون قوله: "لم يكن في شيء من ذلك هدي" أي لم تتكلف به بل قام به عنها".
وقال ابن خزيمة: "معنى قوله: "لم يكنْ في شيءٍ من ذلك هَدْيٌ"، أي في تركها لعمل العمرة الأولى وإدراجها لها في الحج، ولا في عمرتها التي اعتمرتها من التنعيم أيضًا".
قال الحافظ ابن حجر: "وهذا تأويل حسن".
قُلْتُ: وسبب هذا الاختلاف اختلاف الألفاظ الواردة عن عائشة في تحديد النُّسك الذي أحرمت به مع النَّبِيِّ ، حتى قال ابن أبي مليكة (كما في ح/ ٣٧٢٦، ٣٧٢٧) لأيُّوب السّخْتِياني: "ألا تعجب؟ حدثني القاسم، عن عائشة وهي عمَّته، أنهَّا أهلَّت بالحجِّ، وحدَّثني عروة وهي خالته أنها قالت: أهللت بِعُمرة".
وذهب بعض العلماء إلى تغليط عروة، في روايته عن عائشة أنها أهلَّت بعمرة، وأن الصَّواب روايةُ الأسود والقاسم عن عائشة، أنهَّا أهلت بالحجِّ مفردا، مع أنَّ كلَّ تلك الرِّوايات مخرَّجة في الصَّحيحين، وممَّن ذهب إلى هذا إسماعيل القاضي، وابن عبد البر.
قال ابن عبد البر بعد سرد ألفاظ حديث عائشة المختلفة: "فهذه الألفاظ مع ما تقدم من قولها في رواية الحُفَّاظ أيْضًا "خرجنا لا نرى إلا الحج" دليل على أنها لم تكن معتمرة ولا مُهِلَّة بعمرة كما زعم عروة، والله أعلم، فإذا لم تكن كذلك =
⦗٢٨١⦘ = فكيف يأمرها رسول الله برفض عمرة وهي محرمة بِحَجَّة لا بعمرة، قال إسماعيل بن إسحاق: قد اجتمع هؤلاء يعني القاسم وعمرة والأسود على الرواية التي ذكرنا فعَلِمْنَا بذلك أنَّ الرِّواية التي رويت عن عروة غلط، ويَشْبَه أن يكون الغلط إنما وقع فيه أنهَّا لم يمكنها الطَّواف بالبيت وأن تَحِلَّ بِعُمْرةٍ كما فعل من لم يسق الهدي فأمرها النَّبِيّ أن تترك الطواف وتمضي على الحج فتوهموا بهذا المعني أنهَّا كانت معتمرة وأنها تركت عمرتها وابتدأت الحج".
ثم قال ابن عبد البر: "الاضطراب عن عائشة في حديثها هذا في الحجِّ عظيم وقد أكثر العلماء في توجيه الرِّوايات فيه ودفع بعضُهم بعضًا ببعضٍ ولم يستطيعوا الجمع بينها، ورام قوم الجمع بينها في بعض معانيها".
قلتُ: قد جمع بعض المحققين من المتأخرين -منهم القاضي عياض، والنَّووي، والحافظ ابن حجر- بين تلك الألفاظ جَمْعا موفَّقًا يضمن عدم ردِّ أحاديث صحيحة أخرجها أرباب الصِّحاح.
قال القاضي عياض: "اختلفت الآثار عن عائشة فيما فعلته اختلافا كثيرا، فذكر منها مسلم ما تقدم -يعني: حديث عروة أنها أهلَّت بعمرة- ذكر أيضًا عنها في حديث القاسم: "لبينا بالحج" وعنها في حديثه -أيضًا-: "خرجنا مُهِلِّين بالحج"، وفيه حين أمر الناس بالعمرة، قولها: "سمعت كلامك فمنعتُ العمرة"، وقوله لها: "عسى الله أن يرزقكيها"، وفي حديث آخر لا يذكر إلا الحج، كل هذا يصرح أنها أهلت بالحج، وذكر عنها في رواية الأسود: "نلبي لا نذكر حجا ولا عمرة"،. . وأن الجمع بين ذلك ممكن، وكان إهلالها بالحج كما نص عليه أولئك أولا، وكما أنه الأثبت، والصحيح عن النَّبِيّ وأصحابه، ثم أهلتْ بالعمرة حين أمر النَّبِيّ أصحابه بفسخ الحج في العمرة، وهذا فسَّره القاسم في حديثه، فأخبر عروة =
⦗٢٨٢⦘ = عنها باعتمادها الآخر، الذي جرى فيه الحكم في حيضها قبل تحللِها منه، ولم يذكر أول أمرها".
قال النَّووي: "قال القاضي: وقد تعارض هذا بما صحَّ عنها في إخبارها عن فعل الصحابة واختلافهم في الإحرام وأنَّها أحرمت بعمرة، فالحاصل أنه أحرمت بحج، ثم فسخته إلى عمرة حين أمر النَّاس بالفسخ، فلما حاضت وتعذر عليها إتمام العمرة والتحلل منها وإدراك الإحرام بالحج، أمره النَّبِيِّ بالإحرام بالحج، فأحرمت فصارت مُدْخِلة للحج على العمرة وقارنة".
قلتُ: قد أجاب الحافظ ابن حجر عن هذا الإشكال الأخير، وهو إخبارها عن اختلاف الصحابة في الإحرام وانها أحرمت بعمرة، فقال: "وظاهره -يعني ظاهر الأحاديث المروية عن عائشة- أن عائشة مع غيرها من الصحابة كانوا أوَّلًا محرمين بالحج، لكن في رواية عروة عنها هنا: "فمِنَّا من أهلَّ بِعُمرة، ومنَّا من أهلَّ بحجٍّ وعمرة، ومن أهلَّ بالحج" فيحمل الأول -يعني قوله: فمِنَّا من أهل بعمرة- على أنهَّا ذكرت ما كانوا يعهدونه من ترك الاعتمار في أشهر الحج فخرجوا لا يعرفون إلا الحَجَّ، ثم بيَّن لهم النَّبِيّ وجوه الإحرام وجوَّز لهم الاعتمار في أشهر الحج،. . ولهذه النّكْتَة أورد المصنِّف -يعني البخاري- في الباب حديث ابن عباس: "كانوا يرون العُمرة في أشهر الحج من أفْجَرِ الفُجور. . ." فأشار إلى الجمع بين ما اختلف عن عائشة في ذلك".
وردَّ الحافظ ابن حجر تغليط عروة في روايته عن عائشة "أنها أهلَّت بعمرة"، وقال: "وهو أعلم النَّاس بحديثها، وقد وافقه جابر بن عبد الله الصَّحَابي كما أخرجه مسلم عنه، وكذا رواه طاوس ومجاهد عن عائشة".
انظر: التمهيد لابن عبد البر (٨/ ٢١٩ - ٢٢٠، ٢٢٤ - ٢٢٦)، شرح النووي على =
⦗٢٨٣⦘ = مسلم (٨/ ٣٧٦ - ٣٧٧)، فتح الباري (٣/ ٤٩٥، ٧١٤)، إكمال المعلم للقاضي عياض (٤/ ٢٣٠ - ٢٣١)، مرقاة المفاتيح (٥/ ٤٦٦ - ٤٦٧)، عمدة القاري (٣/ ٢٨٩)، طرح التثريب (٥/ ٢٦).