فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ حَتْمًا، بِخِلَافِ الْمُضْطَرِّ حَيْثُ يَتَخَيَّرُ؛ لِأَنَّ الْآفَةَ هُنَاكَ سَمَاوِيَّةٌ وَهَاهُنَا مِنْ الْعِبَادِ، ثُمَّ لَا يَرْجِعُ الْمَحْلُوقُ رَأْسَهُ عَلَى الْحَالِقِ؛ لِأَنَّ الدَّمَ
تَفَثِ غَيْرِهِ، وَقَدْ كَانَ كُلُّ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ مُوجِبًا لِلصَّدَقَةِ، فَرُبَّمَا يُقَالُ تَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ بِهَذَا الِاجْتِمَاعِ فَتَقْتَضِي وُجُوبَ الدَّمِ عَلَى الْحَالِقِ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الِادِّهَانِ بِالزَّيْتِ الْبَحْتِ حَيْثُ أَوْجَبَ الدَّمَ لِاجْتِمَاعِ أُمُورٍ لَوْ انْفَرَدَ كُلٌّ مِنْهَا لَمْ يُوجِبْهُ كَتَلْيِينِ الشَّعْرِ وَأَصَالَتِهِ لِلطِّيبِ وَقَتْلِ الْهَوَامِّ فَتَكَامَلَتْ الْجِنَايَةُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ فَوَجَبَ الدَّمُ.
وَتَقْرِيرُ الْخِلَافِ مَعَ الشَّافِعِيِّ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ، فَمَبْنَى عَدَمِ إلْزَامِ الْمُحْرِمِ شَيْئًا إذَا كَانَ غَيْرَ مُخْتَارٍ بِالتَّقَدُّمِ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ مِنْ أَنَّ عَدَمَهُ يَسْقُطُ الْحُكْمُ عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا لَا. وَمَبْنَى عَدَمِهِ عِنْدَهُ عَلَى الْحَالِقِ مُطْلَقًا عَدَمُ الْمُوجِبِ، أَمَّا إنْ كَانَ حَلَالًا فَلِأَنَّ الْحَلْقَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِارْتِفَاقَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ وَهُوَ الْمُوجَبُ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ بَاشَرَ أَمْرًا مَحْظُورًا، وَهُوَ إعَانَةُ الْمَحْلُوقِ الْمُحْرِمِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ إنْ كَانَ بِاخْتِيَارِهِ وَبِغَيْرِ اخْتِبَارِهِ أَوْلَى. قُلْنَا: الْمَعَاصِي إنَّمَا هِيَ أَسْبَابٌ لِعُقُوبَةِ الْإِحْلَالِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَعْصِيَةٍ تُوجِبُ جَزَاءً فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا إلَّا بِالنَّصِّ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي الْحَالِقِ فَنَقُولُ: أَمَّا الْحَالُّ فَأَلْحَقْنَاهُ بِقَاطِعِ شَجَرِ الْحَرَمِ بِجَامِعِ تَفْوِيتِ أَمْنٍ مُسْتَحَقٍّ مُسْتَعْقِبٍ لِلْجَزَاءِ. وَالْوَاجِبُ اتِّبَاعُ الدَّلِيلِ لَا بِقَيْدِ كَوْنِهِ نَصًّا.
وَأَمَّا الْمُحْرِمُ فَلِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ لِلْجَزَاءِ فِي حَقِّهِ هُوَ نَيْلُ الِارْتِفَاقِ بِقَضَاءِ التَّفَثِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ كَانَ الْجَزَاءُ دَمًا وَإِلَّا فَصَدَقَةً. وَقَيْدُ الْإِضَافَةِ إلَى نَفْسِهِ مُلْغَى إذَا لَمْ يَثْبُتْ اعْتِبَارُهُ وَعَقْلِيَّةُ اسْتِقْلَالِ مَا سِوَاهُ ثَابِتَةٌ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ نَفْسَهُ مَحَلٌّ وَالْمَحَلُّ لَا يَدْخُلُ فِي التَّعْلِيلِ، وَإِلَّا امْتَنَعَ الْقِيَاسُ، فَالْأَصْلُ إلْغَاءُ الْمُحَالِ إلَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى قَصْدِ تَخْصِيصِ الْحُكْمِ بِهِ دَلِيلٌ لَا مَرَدَّ لَهُ، خُصُوصًا إذَا لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَيْهِ مُنَاسَبَةُ الْمُنَاسِبِ فَيَتَعَدَّى مِنْ نَفْسِهِ إلَى غَيْرِهِ إذَا وَجَدَ فِيهِ تَمَامَ الْمُؤَثِّرِ وَقُصُورَهَا رَدَّهَا إلَى الصَّدَقَةِ. وَقَدْ يُقَالُ: مُبَاشَرَةُ الْفِعْلِ الَّذِي بِهِ قَضَاءُ التَّفَثِ إنْ كَانَ جُزْءُ الْعِلَّةِ وَلَوْ حُكْمًا بِأَنْ يَأْذَنَ الْمُحْرِمُ فِي حَلْقِ رَأْسِهِ لَزِمَ عَدَمُ الْجَزَاءِ عَلَى النَّائِمِ بِحَلْقِ رَأْسِهِ وَإِلَّا لَزِمَ الْجَزَاءُ إذَا نَظَرَ إلَى ذِي زِينَةٍ مَقْضِيِّ التَّفَثِ، فَإِنْ اُخْتِيرَ الثَّانِي وَادَّعَى أَنَّ الِارْتِفَاقَ لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ رُؤْيَةٍ كَمَا قُلْنَا بِنَفْيِ الْجَزَاءِ فِي مُجَرَّدِ اللُّبْسِ لِذَلِكَ عَكَرَهُ مَا لَوْ فَرَضَ طُولَهَا يَوْمًا مَعَ مُحَادِثَتِهِ وَصُحْبَتِهِ وَاسْتِنْشَاقِ طِيبِهِ، وَلَوْ كَانَ إلَى شَيْءٍ لَقُلْت بِاخْتِيَارِ الْأَوَّلِ وَنَفْيِ الْجَزَاءِ عَنْ النَّائِمِ وَالْمُكْرَهِ، وَلَا يَلْزَمُنِي هَذَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ كَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ فِيهَا مَثَلًا عُلِّقَ بِمُجَرَّدِ وُجُودِ الْكَلَامِ مَثَلًا، وَهُنَا قَدْ فَرَضَ تَعْلِيقَ الْجَزَاءِ بِالِارْتِفَاقِ الْكَائِنِ عَنْ مُبَاشَرَةِ السَّبَبِ وَلَوْ حُكْمًا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute