(فَصْلٌ)
(إذَا أَمَّنَ رَجُلٌ حُرٌّ أَوْ امْرَأَةٌ حُرَّةٌ كَافِرًا أَوْ جَمَاعَةً أَوْ أَهْلَ حِصْنٍ أَوْ مَدِينَةٍ صَحَّ أَمَانُهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قِتَالُهُمْ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ ﵊ «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» أَيْ أَقَلُّهُمْ
مَا شَاءَ فَصَالَحَ وَصَارَ ذِمَّةً فَهُمْ عَبِيدٌ لَهُ كَمَا كَانُوا يَبِيعُونَهُ إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ خَلَفٌ عَنْ الْإِسْلَامِ فِي الْأَحْرَارِ، وَلَوْ أَسْلَمَ كَانُوا عَبِيدَهُ، فَكَذَا إذَا صَارَ ذِمِّيًّا، وَهَذَا لِأَنَّهُ كَانَ مَالِكًا لَهُمْ بِيَدِهِ الْقَاهِرَةِ وَقَدْ ازْدَادَتْ وَكَادَةً بِعَقْدِ الذِّمَّةِ فَإِنْ ظَفَرَ عَلَيْهِمْ عَدُوٌّ فَاسْتَنْقَذَهُمْ الْمُسْلِمُونَ فَإِنَّهُمْ يَرُدُّونَهُمْ عَلَى هَذَا الْمَلِكِ بِغَيْرِ شَيْءٍ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبِالْقِيمَةِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ كَسَائِرِ أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَهَذَا لِأَنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْقِيَامَ بِدَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَمَا عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ؛ وَكَذَا لَوْ أَسْلَمَ الْمَلِكُ وَأَهْلُ أَرْضِهِ أَوْ أَسْلَمُوا هُمْ دُونَهُ هُمْ عَبِيدُهُ وَلَوْ وَادَعُوا عَلَى أَنْ يُؤَدُّوا كُلَّ سَنَةٍ شَيْئًا مَعْلُومًا وَعَلَى أَنْ لَا يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ فِي بِلَادِهِمْ أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ
لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ بِهَذِهِ الْمُوَادَعَةُ لَا يَلْتَزِمُونَ أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْ أَنْ يَكُونُوا أَهْلَ حَرْبٍ، وَتَرَكَ الْقِتَالِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ إنْ كَانَ بَعْدَ مَا أَحَاطَ بِهِمْ الْجَيْشُ أَوْ قَبْلَهُ بِرَسُولٍ تَقَدَّمَ حُكْمُ هَذَا الْمَالِ، وَلَوْ صَالَحُوهُمْ عَلَى أَنْ يُؤَدُّوا إلَيْهِمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةَ رَأْسٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ هَذَا الصُّلْحَ وَقَعَ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ فَكَانُوا كُلُّهُمْ مُسْتَأْمَنِينَ وَاسْتِرْقَاقُ الْمُسْتَأْمَنِ لَا يَجُوزُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ لَوْ بَاعَ ابْنَهُ بَعْدَ هَذَا الصُّلْحِ لَمْ يَجُزْ فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَمْلِيكُ شَيْءٍ مِنْ نُفُوسِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ بِحُكْمِ تِلْكَ الْمُوَادَعَةِ؛ لِأَنَّ حُرِّيَّتَهُمْ تَأَكَّدَتْ، بِخِلَافِ مَا لَوْ صَالَحُوهُمْ عَلَى مِائَةِ رَأْسٍ بِأَعْيَانِهِمْ أَوَّلَ السُّنَّةِ وَقَالُوا أَمِّنُونَا عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ لَكُمْ وَنُصَالِحُكُمْ ثَلَاثَ سِنِينَ مُسْتَقْبَلَةً عَلَى أَنْ نُعْطِيَكُمْ كُلَّ سَنَةٍ مِائَةَ رَأْسٍ مِنْ رَقِيقِنَا فَإِنَّهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمُعَيَّنِينَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى لَا تَتَنَاوَلُهُمْ الْمُوَادَعَةُ وَمِنْهَا يَثْبُتُ الْأَمَانُ لَهُمْ، فَإِذَا جَعَلُوهُمْ مُسْتَثْنًى مِنْ الْمُوَادَعَةِ بِجَعْلِهِمْ إيَّاهُمْ عِوَضًا لِلْمُسْلِمِينَ صَارُوا مَمَالِيكَ الْمُسْلِمِينَ بِالْمُوَادَعَةِ، وَالْمَشْرُوطُ فِي السِّنِينَ الْكَائِنَةِ بَعْدَ الْمُوَادَعَةِ أَرِقَّاءُ فَجَازَ.
وَلَوْ سَرَقَ مُسْلِمٌ مَالَهُمْ بَعْدَ الْمُوَادَعَةِ لَا يَحِلُّ شِرَاؤُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ مَالَ الْمُسْتَأْمَنِ لَا يُمْلَكُ بِالسَّرِقَةِ لِأَنَّهُ غَدْرٌ فَلَا يَصِحُّ شِرَاؤُهُ مِنْهُ.
وَلَوْ أَغَارَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى أَهْلِ الصُّلْحِ جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُمْ مَا أَخَذُوهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا بِالْإِحْرَازِ كَمَالِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ لَا يَلْزَمُ رَدُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَلَا بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُمْ بِالْمُوَادَعَةِ مَا خَرَجُوا عَنْ كَوْنِهِمْ أَهْلَ حَرْبٍ؛ إذْ لَمْ يَنْقَادُوا إلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْقِيَامُ بِنُصْرَتِهِمْ، وَلَوْ دَخَلَ بَعْضُهُمْ دَارَ حَرْبٍ أُخْرَى فَظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا لَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ لِأَنَّهُ فِي أَمَانِ الْمُسْلِمِينَ.
(فَصْلٌ فِي الْأَمَانِ)
وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْمُوَادَعَةِ فِي التَّحْقِيقِ (قَوْلُهُ إذَا أَمِنَ رَجُلٌ حُرٌّ أَوْ امْرَأَةٌ حُرَّةٌ كَافِرًا أَوْ جَمَاعَةً أَوْ أَهْلَ حِصْنٍ أَوْ مَدِينَةٍ صَحَّ أَمَانُهُمْ) عَلَى إسْنَادِ الْمَصْدَرِ إلَى الْمَفْعُولِ (وَلَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قِتَالُهُمْ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ ﵊ «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ») أَيْ لَا تَزِيدُ دِيَةُ الشَّرِيفِ عَلَى دِيَةِ الْوَضِيعِ «وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» أَخْرَجَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute