(بَابُ التَّحْكِيمِ)
أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَنَصَّ أَصْحَابُ الْأَمَالِي عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ فِي السَّوَادِ، وَهَكَذَا فِي النَّوَادِرِ عَنْ مُحَمَّدٍ. وَلَوْ عَلِمَ بِحَادِثَةٍ وَهُوَ قَاضٍ فِي مِصْرِهِ ثُمَّ عُزِلَ ثُمَّ أُعِيدَ إلَى الْقَضَاءِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَقْضِي، وَعِنْدَهُمَا يَقْضِي. وَأَمَّا فِي حَدِّ الشُّرْبِ وَالزِّنَا فَلَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ بِعِلْمِهِ اتِّفَاقًا، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
هَذَا أَيْضًا مِنْ فُرُوعِ الْقَضَاءِ، وَالْمُحَكَّمُ أَحَطُّ رُتْبَةً مِنْ الْقَاضِي، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي فِيمَا لَا يَقْضِي الْمُحَكَّمُ فَأَخَّرَهُ عَنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ التَّحْكِيمِ بِالشَّرْطِ وَإِضَافَتِهِ، بِخِلَافِ الْقَضَاءِ لِأَنَّ حُكْمَهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِصْلَاحِ وَالْوَاقِعُ مِنْهُ كَالصُّلْحِ، أَوْ هُوَ صُلْحٌ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَكُونُ مِثْلَهُ بِالشَّكِّ. وَالتَّحْكِيمُ جَائِزٌ بِالْكِتَابِ قَوْله تَعَالَى ﴿فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ﴾ الْآيَةَ، وَفِيهِ نَظَرٌ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا «قَالَ أَبُو شُرَيْحٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ قَوْمِي إذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ فَأَتَوْنِي فَحَكَمْت بَيْنَهُمْ فَرَضِيَ عَنِّي الْفَرِيقَانِ، فَقَالَ ﵊: مَا أَحْسَنَ هَذَا» رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَأُجْمِعَ عَلَى أَنَّهُ ﷺ عَمِلَ بِحُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ لَمَّا اتَّفَقَتْ الْيَهُودُ عَلَى الرِّضَا بِحُكْمِهِ فِيهِمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ عُمَرَ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مُنَازَعَةٌ فِي نَخْلٍ فَحَكَّمَا بَيْنَهُمَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَأَتَيَاهُ فَخَرَجَ زَيْدٌ وَقَالَ لِعُمَرَ: هَلَّا بَعَثْت إلَيَّ فَآتِيك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ عُمَرُ: فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحَكَمُ، فَدَخَلَا بَيْتَهُ فَأَلْقَى لَعُمَرَ وِسَادَةً، فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا أَوَّلُ جَوْرِك فَكَانَتْ الْيَمِينُ عَلَى عُمَرَ، فَقَالَ زَيْدٌ لِأُبَيٍّ: لَوْ أَعْفَيْت أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ عُمَرُ: يَمِينٌ لَزِمَتْنِي، فَقَالَ أُبَيٌّ: نُعْفِي أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَنُصَدِّقُهُ، وَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَظُنُّ بِأَحَدٍ مِنْهُمَا فِي هَذِهِ الْخُصُومَةِ التَّلْبِيسَ، وَإِنَّمَا هِيَ لِاشْتِبَاهِ الْحَادِثَةِ عَلَيْهِمَا فَتَقَدَّمَا إلَى الْحَكَمِ لِلتَّبْيِينِ لَا لِلتَّلْبِيسِ. وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ التَّحْكِيمِ وَأَنَّ زَيْدًا كَانَ مَعْرُوفًا بِالْفِقْهِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ﵄ كَانَ يَخْتَلِفُ إلَيْهِ وَيَأْخُذُ بِرِكَابِهِ عِنْدَ رُكُوبِهِ، وَقَالَ هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَصْنَعَ بِفُقَهَائِنَا، فَقَبَّلَ زَيْدٌ يَدَهُ وَقَالَ: هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَصْنَعَ بِأَشْرَافِنَا. وَفِيهِ أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَكُونُ قَاضِيًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنَّ مَنْ احْتَاجَ إلَى الْعِلْمِ يَأْتِي إلَى الْعَالِمِ فِي بَيْتِهِ وَلَا يَبْعَثُ إلَيْهِ لِيَأْتِيَهُ وَإِنْ كَانَ أَوْجَهَ النَّاسِ. وَأَمَّا إلْقَاءُ زَيْدٍ الْوِسَادَةَ فَاجْتِهَادٌ مِنْ قَوْلِهِ ﷺ «إذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ» «وَبَسَطَ النَّبِيُّ ﷺ رِدَاءً لَعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ»، وَأَنَّ الْخَلِيفَةَ لَيْسَ كَغَيْرِهِ، وَاجْتِهَادُ عُمَرَ عَلَى تَخْصِيصِ هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ عُمُومِ الْأَوَّلِ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْحَلِفِ صَادِقًا، وَامْتِنَاعُ عُثْمَانَ عَنْ الْيَمِينِ حِينَ لَزِمَتْهُ كَانَ لِأَمْرٍ آخَرَ، وَأَنَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute