وَالتَّحَلُّلُ قَبْلَ أَوَانِهِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ الْآتِي مِنْ قِبَلِ امْتِدَادِ الْإِحْرَامِ، وَالْحَرَجُ فِي الِاصْطِبَارِ عَلَيْهِ مَعَ الْمَرَضِ أَعْظَمُ،
وَرَدَتْ فِي الْإِحْصَارِ بِالْمَرَضِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ إجْمَاعَهُمْ عَلَى أَنَّ مَدْلُولَ لَفْظِ الْإِحْصَارِ الْمَنْعُ الْكَائِنُ بِالْمَرَضِ وَالْآيَةُ وَرَدَتْ بِذَلِكَ اللَّفْظِ فَيَلْزَمُ إجْمَاعُهُمْ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهَا ذَلِكَ إلَّا بِنَافٍ؛ وَهَذَا لِأَنَّ ذَلِكَ نُقِلَ عَنْ الْفَرَّاءِ وَالْكِسَائِيِّ وَالْأَخْفَشِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَابْنِ السِّكِّيتِ وَالْقُتَبِيِّ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: عَلَى ذَلِكَ جَمِيعُ أَهْلِ اللُّغَةِ. ثُمَّ الْمُقَابَلَةُ فِي نَقْلِهِ قَوْلُهُمْ الْإِحْصَارُ بِالْمَرَضِ وَالْحَصْرُ بِالْعَدُوِّ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْإِحْصَارَ خَاصٌّ بِالْمَرَضِ وَالْحَصْرَ خَاصٌّ بِالْعَدُوِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ كَوْنُ الْمَنْعِ بِالْمَرَضِ مِنْ مَاصَدَقَاتِ الْإِحْصَارِ، فَإِنْ أَرَادَ الْأَوَّلَ وَرَدَ عَلَيْهِ كَوْنُ الْآيَةِ؛ لِبَيَانِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ الَّتِي وَقَعَتْ؛ لِلرَّسُولِ ﷺ وَأَصْحَابِهِ ﵃، وَاحْتَاجَ إلَى جَوَابِ صَاحِبِ الْأَسْرَارِ.
وَحَاصِلُهُ كَوْنُ النَّصِّ الْوَارِدِ؛ لِبَيَانِ حُكْمِ حَادِثَةٍ قَدْ يَنْتَظِمُهَا لَفْظًا وَقَدْ يَنْتَظِمُ غَيْرَهَا مِمَّا يُعْرَفُ بِهِ حُكْمُهَا دَلَالَةً، وَهَذِهِ الْآيَةُ كَذَلِكَ إذْ يُعْلَمُ مِنْهَا حُكْمُ مَنْعِ الْعَدُوِّ بِطَرِيقٍ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَنْعَ الْعَدُوِّ حِسِّيٌّ لَا يَتَمَكَّنُ مَعَهُ مِنْ الْمُضِيِّ، بِخِلَافِهِ فِي الْمَرَضِ إذْ يَتَمَكَّنُ مِنْهُ بِالْمَحْمَلِ وَالْمَرْكَبِ وَالْخَدَمِ، فَإِذَا جَازَ التَّحَلُّلُ مَعَ هَذَا فَمَعَ ذَلِكَ أَوْلَى إلَّا أَنَّهُ مُنَافٍ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ الْوَجْهِ الْمَعْقُولِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ إنَّمَا شُرِعَ؛ لِدَفْعِ الْحَرَجِ الْآتِي مِنْ قِبَلِ امْتِدَادِ الْإِحْرَامِ، وَالصَّبْرُ عَلَيْهِ مَعَ الْمَرَضِ أَعْظَمُ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ حُكْمَ التَّحَلُّلِ مَعَ الْمَرَضِ أَوْلَى مِنْهُ مَعَ الْعَدُوِّ فَلَا يَكُونُ النَّصُّ عَلَيْهِ مَعَ الْمَرَضِ يُفِيدُهُ مَعَ الْعَدُوِّ بِطَرِيقِ الدَّلَالَة، وَلَا تَنْدَفِعُ الْمُنَافَاةُ بِقَوْلِنَا: إنَّ هَذَا مَذْكُورٌ بِطَرِيقِ التَّنَزُّلِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ: أَيْ لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهَا فِي الْإِحْصَارِ بِالْعَدُوِّ فَيَثْبُتُ فِي الْمَرَضِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ عَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ مُدَّعًى حَقِيقَتُهُ، وَعَلَى تَقْدِيرِهِ يَلْزَمُ مَا ذَكَرْنَا. وَالْأَوْلَى إرَادَةُ الْأَوَّلِ وَهُوَ مَحْمَلُ قَوْلِ أَهْلِ اللُّغَةِ الْإِحْصَارُ بِالْمَرَضِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وَالْمُرَادُ مَنَعَهُمْ الِاشْتِغَالُ بِالْجِهَادِ وَهُوَ أَمْرٌ رَاجِعٌ إلَى الْعَدُوِّ، أَوْ الْمُرَادُ أَهْلُ الصُّفَّةِ مَنَعَهُمْ تَعَلُّمُ الْقُرْآنِ أَوْ شِدَّةُ الْحَاجَةِ وَالْجُهْدُ عَنْ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ؛ لِلتَّكَسُّبِ.
وَقَالَ ابْنُ مَيَّادَةَ:
وَمَا هَجْرُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ تَبَاعَدَتْ … عَلَيْك وَلَا أَنْ أَحْصَرَتْك شُغُولٌ
وَلَيْسَ هُوَ بِالْمَرَضِ. وَفِي الْكَشَّافِ يُقَالُ: أُحْصِرَ فُلَانٌ إذَا مَنَعَهُ أَمْرٌ مِنْ خَوْفٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ عَجْزٍ، وَحُصِرَ إذَا حَبَسَهُ عَدُوٌّ عَنْ الْمُضِيِّ أَوْ سِجْنٌ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْمُحْبَسِ الْحَصِيرُ وَلِلْمَلِكِ الْحَصِيرُ، هَذَا هُوَ الْأَكْثَرُ فِي كَلَامِهِمْ اهـ. وَفِي نِهَايَةِ ابْنِ الْأَثِيرِ يُقَالُ: أَحَصَرَهُ الْمَرَضُ أَوْ السُّلْطَانُ إذَا مَنَعَهُ مِنْ مَقْصِدِهِ فَهُوَ مُحْصَرٌ، وَحَصَرَهُ إذَا حَبَسَهُ فَهُوَ مَحْصُورٌ، وَالْمُعَارَضَةُ مَعَ ذَلِكَ بَيْنَ جَوَابِ الشَّيْخَيْنِ قَائِمَةٌ. وَالْأَقْرَبُ حِينَئِذٍ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ كَوْنُ الْآيَةِ تَنْتَظِمُ الْحَادِثَةَ لَفْظًا وَلَوْ بِعُمُومِهَا، وَعَلَى التَّقْدِيرِ انْتَفَى نَفْيُ الشَّافِعِيِّ إلْحَاقَ الْمَرَضِ بِالْعَدُوِّ وَقَصْرَ إفَادَةِ الْآيَةِ عَلَى شَرْعِيَّتِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute