للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

دِمَاءُ كَفَّارَاتٍ، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ لَمَّا أُحْصِرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَبَعَثَ الْهَدَايَا عَلَى يَدَيْ نَاجِيَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ لَهُ: لَا تَأْكُلْ أَنْتَ وَرُفْقَتُكَ مِنْهَا شَيْئًا»

(وَلَا يَجُوزُ ذَبْحُ هَدْيِ التَّطَوُّعِ وَالْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ إلَّا فِي يَوْمِ النَّحْرِ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ (وَفِي الْأَصْلِ يَجُوزُ ذَبْحُ دَمِ التَّطَوُّعِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَذَبْحُهُ يَوْمَ النَّحْرِ أَفْضَلُ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ) لِأَنَّ الْقُرْبَةَ فِي التَّطَوُّعَاتِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا هَدَايَا وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِتَبْلِيغِهَا إلَى الْحَرَمِ، فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ جَازَ ذَبْحُهَا فِي غَيْرِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَفِي أَيَّامِ النَّحْرِ أَفْضَلُ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي إرَاقَةِ الدَّمِ فِيهَا أَظْهَرُ، أَمَّا دَمُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾ ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ﴾

التَّصَدُّقُ بَعْدَ الذَّبْحِ لِتَمَامِ الْقُرْبَةِ بِهِ. وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الدِّمَاءَ نَوْعَانِ: مَا يَجُوزُ لِصَاحِبِهِ الْأَكْلُ مِنْهُ وَهُوَ دَمُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَهَدْيِ التَّطَوُّعِ إذَا بَلَغَ مَحِلَّهُ، وَمَا لَا يَجُوزُ وَهُوَ دَمُ النَّذْرِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْإِحْصَارِ، وَكُلُّ دَمٍ يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِهِ بَعْدَ الذَّبْحِ، لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَبَطَلَ حَقُّ الْفُقَرَاءِ بِالْأَكْلِ، وَكُلُّ دَمٍ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِهِ بَعْدَ الذَّبْحِ، وَلَوْ هَلَكَ بَعْدَ الذَّبْحِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي النَّوْعَيْنِ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِي الْهَلَاكِ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ بَعْدَ الذَّبْحِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِهِ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِلْفُقَرَاءِ لِتَعَدِّيهِ عَلَى حَقِّهِمْ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَجِبُ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ.

وَلَوْ بَاعَ اللَّحْمَ يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ فِي النَّوْعَيْنِ لِقِيَامِ مِلْكِهِ إلَّا أَنَّ مَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَكْلُهُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِثَمَنِهِ كَذَا فِي الْبَدَائِعِ (قَوْلُهُ وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ ) رَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ نَاجِيَةَ الْخُزَاعِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ بَعَثَ مَعَهُ بِهَدْيٍ وَقَالَ لَهُ: إنْ عَطِبَ فَانْحَرْهُ ثُمَّ اُصْبُغْ نَعْلَهُ فِي دَمِهِ ثُمَّ خَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثُ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَلَيْسَ فِيهِ «لَا تَأْكُلْ أَنْتَ وَلَا رُفْقَتُكَ» وَقَدْ أَسْنَدَ الْوَاقِدِيُّ فِي أَوَّلِ غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ الْقِصَّةَ بِطُولِهَا، وَفِيهَا «أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ عَلَى هَدْيِهِ نَاجِيَةَ بْنَ جُنْدُبٍ الْأَسْلَمِيَّ وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ بِهَا، قَالَ: وَكَانَتْ سَبْعِينَ بَدَنَةً، فَذَكَرَهُ إلَى أَنْ قَالَ: وَقَالَ نَاجِيَةُ بْنُ جُنْدُبٍ: عَطِبَ مَعِي بَعِيرٌ مِنْ الْهَدْيِ فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ بِالْأَبْوَاءِ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: انْحَرْهَا وَاصْبُغْ قَلَائِدَهَا فِي دَمِهَا وَلَا تَأْكُلْ أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ رُفْقَتِكَ مِنْهَا شَيْئًا وَخَلِّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ»

وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سِنَانِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ذُؤَيْبًا الْخُزَاعِيَّ أَبَا قَبِيصَةَ حَدَّثَهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يَبْعَثُ بِالْبُدْنِ مَعَهُ ثُمَّ يَقُولُ: إنْ عَطِبَ مِنْهَا شَيْءٌ فَخَشِيتَ عَلَيْهِ مَوْتًا فَانْحَرْهَا ثُمَّ اغْمِسْ نَعْلَهَا فِي دَمِهَا ثُمَّ اضْرِبْ بِهِ صَفْحَتَهَا وَلَا تَطْعَمْهَا أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِكَ» وَأُعِلَّ بِأَنَّ قَتَادَةَ لَمْ يُدْرِكْ سِنَانًا.

وَالْحَدِيثُ مُعَنْعَنٌ فِي مُسْلِمٍ وَابْنِ مَاجَهْ، إلَّا أَنَّ مُسْلِمًا ذَكَرَ لَهُ شَوَاهِدَ وَلَمْ يُسَمِّ ذُؤَيْبًا بَلْ قَالَ إنَّ رَجُلًا، وَإِنَّمَا نَهَى نَاجِيَةَ وَمَنْ ذُكِرَ عَنْ الْأَكْلِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ. قَالَ شَارِحُ الْكَنْزِ: لَا دَلَالَةَ لِحَدِيثِ نَاجِيَةَ عَلَى الْمُدَّعِي لِأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِيمَا عَطِبَ مِنْهَا فِي الطَّرِيقِ، وَالْكَلَامُ فِيمَا إذَا بَلَغَ الْحَرَمَ هَلْ يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهُ أَوْ لَا اهـ.

وَقَدْ أَوْجَدْنَا فِي هَدْيِ التَّطَوُّعِ إذَا ذُبِحَ فِي الطَّرِيقِ امْتِنَاعَ أَكْلِهِ مِنْهُ وَجَوَازَهُ بَلْ اسْتِحْبَابَهُ إذَا بَلَغَ مَحِلَّهُ. وَالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَنَّهَا دِمَاءُ كَفَّارَاتٍ يَسْتَقِلُّ بِالْمَطْلُوبِ

(قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ ذَبْحُ إلَخْ) الْحَاصِلُ أَنَّ دَمَ النَّذْرِ وَالْكَفَّارَاتِ وَهَدْيِ التَّطَوُّعِ يَجُوزُ قَبْلَ أَيَّامِ النَّحْرِ، وَلَا يَجُوزُ دَمُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَالْأُضْحِيَّةِ إلَّا فِيهَا، وَدَمُ الْإِحْصَارِ يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ قَبْلَهَا وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ (قَوْلُهُ أَمَّا دَمُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَكُلُوا مِنْهَا﴾ الْآيَةَ، إلَى قَوْلِهِ ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ﴾ قَدْ بَيَّنَّا فِي كَوْنِ وَقْتِ الطَّوَافِ وَقْتِ الذَّبْحِ مَا يُفِيدُ مِثْلُهُ وَجْهَ كَوْنِ وَقْتِ الذَّبْحِ وَقْتِ

<<  <  ج: ص:  >  >>