شَهَادَةٌ قَامَتْ عَلَى النَّفْيِ وَعَلَى أَمْرٍ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا نَفْيُ حَجِّهِمْ، وَالْحَجُّ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ فَلَا تُقْبَلُ، وَلِأَنَّ فِيهِ بَلْوَى عَامًا لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ وَالتَّدَارُكُ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَفِي الْأَمْرِ بِالْإِعَادَةِ حَرَجٌ بَيِّنٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكْتَفِيَ بِهِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَفُوا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ لِأَنَّ التَّدَارُكَ مُمْكِنٌ فِي الْجُمْلَةِ بِأَنْ يَزُولَ الِاشْتِبَاهُ
كَذَا الْيَوْمُ يَكُونُ يَوْمُ الْوُقُوفِ مِنْهُ الْعَاشِرَ. وَذَكَرَ لِلِاسْتِحْسَانِ أَوْجُهًا: أَحَدَهَا أَنَّهَا قَامَتْ عَلَى النَّفْيِ: أَيْ نَفْيِ جَوَازِ الْوُقُوفِ وَمَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ، وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ لِأَنَّهَا قَامَتْ عَلَى الْإِثْبَاتِ حَقِيقَةً وَهُوَ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ فِي لَيْلَةٍ قَبْلَ رُؤْيَةِ أَهْلِ الْمَوْقِفِ، ثُمَّ هُوَ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ جَوَازِ وُقُوفِهِمْ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْحُكْمِ بَلْ الْفَتْوَى تُفِيدُ عَدَمَ سُقُوطِ الْفَرْضِ فَيُخَاطَبُ بِهِ، وَعَدَمُ سُقُوطِهِ هُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا وَصَارَ كَمَا لَوْ رَآهُ أَهْلُ الْمَوْقِفِ كَذَلِكَ ثُمَّ أَخَّرُوا الْوُقُوفَ.
ثَانِيَهَا: أَنَّ شَهَادَتَهُمْ مَقْبُولَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا، لَكِنْ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ صِحَّةِ الْوُقُوفِ لِعَدَمِ وُقُوعِهِ فِي وَقْتِهِ بَلْ قَدْ وَقَعَ فِي وَقْتِهِ شَرْعًا، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي وَقَفَ فِيهِ النَّاسُ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ التَّاسِعُ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ ﵊ قَالَ «صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَعَرَفَتُكُمْ يَوْمَ تَعْرِفُونَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ» أَيْ أَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى الْيَوْمُ الَّذِي يَقِفُ فِيهِ النَّاسُ عَنْ اجْتِهَادٍ وَرَأَى أَنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ.
ثَالِثَهَا: أَنَّهَا مَقْبُولَةٌ لَكِنَّ وُقُوفَهُمْ جَائِزٌ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الِاشْتِبَاهِ مِمَّا يَغْلِبُ وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، فَلَوْ لَمْ يَحْكُمْ بِالْجَوَازِ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ لَزِمَ الْحَرَجُ الشَّدِيدُ وَقَدْ نَفَاهُ بِفَضْلِهِ الْغَنِيُّ عَنْ الْعَالَمِينَ. وَهَذَا الْوَجْهُ يَصْلُحُ بَيَانًا بِالْحِكْمَةِ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ الْمَذْكُورُ فِيمَا قَبْلَهُ، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا عَدَمُ صِحَّةِ الْوُقُوفِ فَلَا فَائِدَةَ فِي سَمَاعِهَا لِلْإِمَامِ فَلَا يَسْمَعُهَا لِأَنَّ سَمَاعَهَا يُشْهِرُهَا بَيْنَ عَامَّةِ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْمَوْقِفِ فَيَكْثُرُ الْقِيلُ وَالْقَالُ فِيهَا وَتَثُورُ الْفِتْنَةُ وَتَتَكَدَّرُ قُلُوبُ الْمُسْلِمِينَ بِالشَّكِّ فِي صِحَّةِ حَجِّهِمْ بَعْدَ طُولِ عَنَائِهِمْ، فَإِذَا جَاءُوا لِيَشْهَدُوا يَقُولُ لَهُمْ انْصَرِفُوا لَا نَسْمَعُ هَذِهِ الشَّهَادَةَ قَدْ تَمَّ حَجُّ النَّاسِ.
وَهَلْ يَجُوزُ وُقُوفِ الشُّهُودِ؟ رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ وُقُوفُهُمْ وَحَجُّهُمْ. قَالَ مُحَمَّدٌ ﵀: وَإِذَا كَانَ مَنْ رَأَى الْهِلَالَ وَقَفَ يَوْمَ عَرَفَةَ: يَعْنِي فِي الْيَوْمِ الَّذِي شَهِدَ لَمْ يُجْزِ وُقُوفُهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الْوُقُوفَ مَعَ الْإِمَامِ لِأَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ جَازَ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ الْحَجِّ فِي حَقِّ الْجَمَاعَةِ، وَوَقْتُ الْوُقُوفِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْتَلَفَ فِيهِ فَلَا يَعْتَدُّ بِمَا فَعَلَهُ بِانْفِرَادِهِ، وَكَذَا إذَا أَخَّرَ الْإِمَامُ الْوُقُوفَ لِمَعْنًى يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ لَمْ يَجُزْ وُقُوفُ مَنْ وَقَفَ قَبْلَهُ.
فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بِهِلَالِ ذِي الْحَجَّةِ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهُ لَا عِلَّةَ بِالسَّمَاءِ فَوَقَفَ بِشَهَادَتِهِمَا قَوْمٌ قَبْلَ الْإِمَامِ لَمْ يَجُزْ وُقُوفُهُمْ لِأَنَّهُ أَخَّرَهُ بِسَبَبٍ يَجُوزُ الْعَمَلُ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَخَّرَهُ لِلِاشْتِبَاهِ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَفُوا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ لِأَنَّ التَّدَارُكَ مُمْكِنٌ) يَعْنِي إذَا ظَهَرَ لَهُمْ خَطَؤُهُمْ وَالْكَلَامُ فِي تَصْوِيرِ ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ وُقُوفَهُمْ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ عَلَى أَنَّهُ التَّاسِعُ لَا يُعَارِضُهُ شَهَادَةُ مَنْ شَهِدَ أَنَّهُ الثَّامِنُ لِأَنَّ اعْتِقَادَهُ أَنَّهُ الثَّامِنُ إنَّمَا يَكُونُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَوَّلَ ذِي الْحَجَّةِ ثَبَتَ بِإِكْمَالِ عِدَّةِ ذِي الْقَعْدَةِ وَاعْتِقَادُهُ التَّاسِعِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ رُئِيَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute