وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهَا إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا الْيَوْمَ لَا يَبْقَى لَهَا الْخِيَارُ فِي الْغَدِ، فَكَذَا إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا بِرَدِّ الْأَمْرِ لِأَنَّ الْمُخَيَّرَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ لَا يَمْلِكُ إلَّا اخْتِيَارَ أَحَدِهِمَا.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا قَالَ: أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَأَمْرُك بِيَدِك غَدًا أَنَّهُمَا أَمْرَانِ لِمَا أَنَّهُ ذَكَرَ لِكُلِّ وَقْتٍ خَبَرًا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ
زَوْجَهَا لَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا فَلَا يُفْصِحُ عَنْ جَوَابِ النُّكْتَةِ الَّتِي هِيَ مَبْنَى جَوَازِ اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا: أَعْنِي أَنَّ الْمِلْكَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ إنَّمَا يَرْتَدُّ شَطْرُ التَّمْلِيكِ، وَقَدْ قُلْنَا: إنَّ هَذَا التَّمْلِيكَ يُثْبِتُ الْمِلْكَ بِلَا قَبُولٍ، وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ وَجْهِ الظَّاهِرِ حَمْلُ الرَّدِّ الْمَذْكُورِ فِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَلَى اخْتِيَارِهَا زَوْجَهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا لَا تَتَعَرَّضُ لِمَا بِهِ الرَّدُّ فَيُمْكِنُ حَمْلُ رَدِّهَا عَلَى كَوْنِهِ بِمَا يَكُونُ بِلَفْظِ الرَّدِّ وَنَحْوِهِ بِأَنْ تَقُولَ عَقِيبَ الْمِلْكِ بِتَخْيِيرِهَا: رَدَدْت التَّفْوِيضَ أَوْ لَا أُطَلِّقُ، وَبِكَوْنِ هَذَا إعْطَاءً لِنَفْسِ هَذَا الْحُكْمِ وَيَكُونُ هُوَ مُسْتَنَدَ مَا فُرِّعَ فِي الذَّخِيرَةِ حَيْثُ قَالَ: لَوْ جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِهَا أَوْ بِيَدِ أَجْنَبِيٍّ يَقَعُ لَازِمًا فَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّهَا وَالْمَسْأَلَةُ مَرْوِيَّةٌ عَنْ أَصْحَابِنَا، وَبِمَا ذَكَرْنَا تَنْدَفِعُ الْمُنَاقَضَةُ الْمُورَدَةُ فِي الْأَمْرِ بِالْيَدِ حَيْثُ صَرَّحَ فِي الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، وَفِي الْكِتَابِ أَنَّهُ يَرْتَدُّ: أَعْنِي فِي قَوْلِهِ: أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَغَدًا، وَإِنْ رَدَّتْ الْأَمْرَ فِي يَوْمِهَا لَا يَبْقَى الْأَمْرُ فِي يَدِهَا، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِرَدِّهَا هُنَا اخْتِيَارُهَا زَوْجَهَا الْيَوْمَ، وَحَقِيقَتُهُ انْتِهَاءُ مِلْكِهَا، وَهُنَاكَ الْمُرَادُ أَنْ تَقُولَ: رَدَدْت فَلَمْ يَبْقَ تَدَافُعٌ، لَكِنْ الشَّارِحُونَ قَرَّرُوا ثُبُوتَ التَّدَافُعِ فِي ذَلِكَ حَيْثُ نَقَلُوا لِأَنَّهُ لَا يَرْتَدُّ وَنَقَلُوا أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ.
وَوَفَّقُوا بِأَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ عِنْدَ التَّفْوِيضِ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلَا يَرْتَدُّ كَمَا إذَا أَقَرَّ بِمَالٍ لِرَجُلٍ فَصَدَّقَهُ ثُمَّ رَدَّ إقْرَارَهُ لَا يَصِحُّ. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ كَالْإِبْرَاءِ عَنْ الدَّيْنِ ثُبُوتُهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ وَيَرْتَدُّ بِالرَّدِّ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْإِسْقَاطِ أَوْ التَّمْلِيكِ. أَمَّا الْإِسْقَاطُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا التَّمْلِيكُ فَقَالَ تَعَالَى ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ سَمَّى الْإِبْرَاءَ تَصَدُّقًا.
وَمِمَّا وَقَعَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الْمُنَاقَصَةِ مَا ذُكِرَ فِي الْفُصُولِ: لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَمْرُك بِيَدِك ثُمَّ طَلَّقَهَا بَائِنًا خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: لَا يَخْرُجُ وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا. وَوَفَّقَ بِأَنَّ الْخُرُوجَ فِيمَا إذَا كَانَ مُنَجَّزًا، وَعَدَمَهُ إذَا كَانَ مُعَلَّقًا مِثْلُ أَنْ قَالَ: أكرترابزنم فَأَمْرُك بِيَدِك ثُمَّ طَلَّقَهَا بَائِنًا أَوْ خَالَعَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ وَجَدَ الشَّرْطَ يَصِيرُ الْأَمْرُ بِيَدِهَا، وَلَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ ثُمَّ ضَرَبَهَا لَا يَصِيرُ بِيَدِهَا وَمِنْ الْمُنَاقَضَةِ تَصْرِيحُهُمْ بِصِحَّةِ إضَافَتِهِ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ إذَا قَالَ: أَمْرُك بِيَدِك يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهَا (قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا قَالَ: أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَأَمْرُك بِيَدِك غَدًا أَنَّهُمَا أَمْرَانِ) حَتَّى لَوْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا الْيَوْمَ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا غَدًا؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ لَهَا فِي الْغَدِ تَخْيِيرٌ جَدِيدٌ بَعْدَ ذَلِكَ التَّخْيِيرِ الْمُنْقَضِي بِاخْتِيَارِهَا الزَّوْجَ.
قَالَ السَّرَخْسِيُّ: وَهُوَ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ لِكُلِّ وَقْتٍ خَبَرًا صُرِفَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ اشْتِرَاكَ الْوَقْتَيْنِ فِي خَبَرٍ وَاحِدٍ، وَالْأَصْلُ اسْتِقْلَالُ كُلِّ كَلَامٍ.
وَذَكَرَ قَاضِي خَانْ هَذِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا خِلَافًا، فَلَمْ يَبْقَ تَخْصِيصُ أَبِي يُوسُفَ إلَّا لِأَنَّهُ مَخْرَجُ الْفَرْعِ الْمَذْكُورِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا عَدَمُ جَوَازِ اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا لَيْلًا فَلَا تَغْفُلُ عَنْهُ لِأَنَّهُ أَثْبَتُ لَهَا فِي يَوْمٍ مُفْرَدٍ وَلَا يَدْخُلُ اللَّيْلُ، وَالثَّابِتُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يَلِيه بِأَمْرٍ آخَرَ كَقَوْلِهِ: أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ حَيْثُ يَمْتَدُّ إلَى الْغُرُوبِ فَقَطْ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَمْرُك بِيَدِك فِي الْيَوْمِ إنَّمَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ وَهُوَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْأَصْلِ فِي أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا وَفِي غَدٍ.
وَفِي جَامِعِ التُّمُرْتَاشِيِّ: أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ غَدًا بَعْدَ غَدٍ فَهُوَ أَمْرٌ وَاحِدٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهَا أَوْقَاتٌ مُتَرَادِفَةٌ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ أَمْرُك بِيَدِك أَبَدًا فَيَرْتَدُّ بِرَدِّهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute