وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ حَتَّى صَارَ مِنْ الْكِنَايَاتِ، وَالْوَاقِعُ بِالْكِنَايَةِ بَائِنٌ
أَبِي هُرَيْرَةَ «لِكُلِّ شَيْءٍ زَكَاةٌ، وَزَكَاةُ الْجَسَدِ الصَّوْمُ، وَالصَّوْمُ نِصْفُ الصَّبْرِ» فَلِهَذَا صَرَّحَ أَصْحَابُنَا بِنَقْلِ مَذْهَبِنَا عَنْ عُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَلِيٍّ ﵃، ثُمَّ يُعَارِضُهُ قَوْلُ غَيْرِهِ، بَلْ وَالْمَرْوِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أَسْنَدَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ هَاشِمٍ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ﵁ قَالَ: لَا تَكُونُ طَلْقَةً بَائِنَةً إلَّا فِي فِدْيَةٍ أَوْ إيلَاءٍ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا وَتَقَدَّمَ مَا رَوَيْنَاهُ عَنْ عُثْمَانَ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي عَاصِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ جَعَلَ الْخُلْعَ تَطْلِيقَةً» وَمَرَاسِيلُ سَعِيدٍ لَهَا حُكْمُ الْوَصْلِ الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَكِبَارُ التَّابِعِينَ قَلَّ أَنْ يُرْسِلُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إلَّا عَنْ صَحَابِيٍّ وَإِنْ اتَّفَقَ غَيْرُهُ نَادِرًا فَعَنْ ثِقَةٍ، هَكَذَا تَتَبَّعْت مَرَاسِيلَهُ، وَبِهِ يَقْوَى ظَنُّ حُجِّيَّةِ مَا رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ عَنْهُ ﷺ «الْخُلْعُ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ» وَكَذَا مَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَسَكَتَ عَلَيْهِ وَابْنُ عَدِيٍّ وَأَعَلَّهُ بِعَبَّادِ بْنِ كَثِيرِ الثَّقَفِيِّ مِنْ «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ جَعَلَ الْخُلْعَ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً» وَإِنْ كَانَ لَا يَصِحُّ عَلَى طَرِيقِ أَهْلِ الشَّأْنِ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالضَّعْفِ إنَّمَا هُوَ ظَاهِرٌ مَعَ احْتِمَالِ الصِّحَّةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَجَازَ أَنْ يَقُومَ دَلِيلُ الصِّحَّةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَعَ الضَّعْفِ فِي الظَّاهِرِ.
وَهَاهُنَا نَظَرٌ عَلَى أُصُولِنَا، وَهُوَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ﵄ رَوَى حَدِيثَ امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ عَلَى مَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَتْ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ لَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي دِينٍ وَلَا خُلُقٍ وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ ﷺ: اقْبَلْ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً» ثُمَّ إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ بِأَنَّهُ فَسْخٌ، وَعَمَلُ الرَّاوِي عِنْدَنَا بِخِلَافِ رِوَايَتِهِ يَنْزِلُ مَنْزِلَ رِوَايَتِهِ لِلنَّاسِخِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ رُجُوعُهُ كَمَا قَالُوا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنَّ ثَابِتًا طَلَّقَهَا امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ ﷺ لَا يَبْقَى مِنْ مَحِلِّ النِّزَاعِ وَهُوَ الْخُلْعُ، بَلْ يَصِيرُ طَلَاقًا عَلَى مَالٍ، فَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ بَعْدَ ذَلِكَ: الْخُلْعُ فَسْخُ كَلَامٍ فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى فَحِينَئِذٍ مَا يَأْتِي مِنْ تَسْمِيَةِ الرَّاوِي لَهُ خُلْعًا حَيْثُ قَالَ: وَكَانَ أَوَّلُ خُلْعٍ فِي الْإِسْلَامِ يَعْنِي أَوَّلَ طَلَاقٍ بِمَالٍ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِقَوْلِهِ ﷺ طَلِّقْهَا امْتَثَلَ قَوْلَهُ ﷺ فَطَلَّقَ، وَكَثِيرًا مَا يُطْلَقُ الْخُلْعُ عَلَى الطَّلَاقِ بِمَالٍ.
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْأَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ الصَّحَابَةِ مَا قُلْنَاهُ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْمَرْفُوعِ الصَّرِيحِ الَّذِي لَا يُقَاوِمُهُ النَّقْلُ التَّقْدِيرِيُّ، وَلَوْ تَرَكْنَا الْكُلَّ يَتَعَارَضُ وَرَجَعْنَا إلَى النَّظَرِ فِي الْمَعْنَى أَفَادَ مَا قُلْنَاهُ فَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ﵀ بِقَوْلِهِ (وَلِأَنَّهُ) أَيْ الْخُلْعُ (مِنْ الْكِنَايَاتِ) حَتَّى لَوْ قَالَ خَلَعْتُك يَنْوِي الطَّلَاقَ وَقَعَ الطَّلَاقُ الْبَائِنُ عِنْدَنَا، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْخُلْعِ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْكِنَايَاتِ أَنَّهَا عَوَامِلُ بِحَقَائِقِهَا وَالنِّكَاحُ قَائِمٌ بِالرُّجْعَى فَلَمْ يَنْخَلِعْ، ثُمَّ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ ذَلِكَ إلَّا بِذِكْرِ الْمَالِ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي خُرُوجَهُ عَنْ حَالِهِ، وَأَيْضًا هَذِهِ فُرْقَةٌ بَعْدَ تَمَامِ النِّكَاحِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ كَوْنِهَا طَلَاقًا لِأَنَّهُ هُوَ الْمَعْهُودُ وَالْحَمْلُ عَلَى مَا عَهِدَ وَاجِبٌ حَتَّى يَدُلَّ عَلَى خِلَافِهِ دَلِيلٌ وَلَمْ يَثْبُتْ كَمَا أَرَيْنَاك.
وَالْفُرْقَةُ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ وَالْعِتْقِ وَعَدَمِ الْكَفَاءَةِ قَبْلَ تَمَامِهِ لِأَنَّ النِّكَاحَ فِيهِ خِيَارٌ إذَا بَلَغَتْ وَعَتَقَتْ وَخِيَارُ الْمُولِي فَكَانَ ذَلِكَ امْتِنَاعًا عَنْ إتْمَامِهِ مَعْنًى، وَأَيْضًا مِلْكُ النِّكَاحِ ضَرُورِيٌّ لِأَنَّهُ وَارِدٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute