(وَإِنْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْهَا كَرِهْنَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا) وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ طَابَ الْفَضْلُ أَيْضًا لِإِطْلَاقِ مَا تَلَوْنَا بَدْءًا. وَوَجْهُ الْأُخْرَى قَوْلُهُ ﷺ فِي امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شِمَاسٍ «أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا»
كَرِهَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾ نَهَى عَنْ الْأَخْذِ مِنْهَا عِنْدَ عَدَمِ نُشُوزِهَا وَكَوْنِهِ مِنْهُ.
وَتَقَدَّمَ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ ثُبُوتَ الْكَرَاهَةِ دُونَ التَّحْرِيمِ لِلْمُعَارِضَةِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ إذْ لَا مُعَارَضَةَ فِي التَّحْرِيمِ، فَإِنَّ إطْلَاقَ نَفْيِ الْجُنَاحِ فِي آيَةِ الْمُطَلَّقَةِ مُقَيَّدًا بِالْمُشَاقَّةِ فَإِنَّ الْآيَةَ هَكَذَا (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَخَافَا أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ، فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) وَالنَّهْيُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى مُقَيَّدٌ بِانْفِرَادِهِ بِالنُّشُوزِ فَلَا يَتَلَاقَيَانِ فَلَا تَعَارَضَ فِي حُرْمَةِ الْأَخْذِ. عَلَى أَنَّهُ لَوْ تَعَارَضَا كَانَ التَّحْرِيمُ ثَابِتًا بِالْعُمُومَاتِ الْقَطْعِيَّةِ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى حُرْمَةِ أَخْذِ مَالِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَفِي إمْسَاكِهَا لَا لِرَغْبَةٍ بَلْ إضْرَارًا وَتَضْيِيقًا لِيَقْتَطِعَ مَالَهَا فِي مُقَابِلَةِ خَلَاصِهَا مِنْ الشِّدَّةِ الَّتِي هِيَ فِيهَا مَعَهُ ذَلِكَ وَقَالَ تَعَالَى ﴿وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾ …
...
﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ فَهَذَا دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ عَلَى حُرْمَةِ أَخْذِ مَالِهَا كَذَلِكَ فَيَكُونُ حَرَامًا إلَّا أَنَّهُ لَوْ أَخَذَ جَازَ فِي الْحُكْمِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ آخِرًا: أَيْ يَحْكُمُ بِصِحَّةِ التَّمَلُّكِ وَإِنْ كَانَ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ.
وَعَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ مُقْتَضَى مَا تَلَوْنَاهُ) يَعْنِي قَوْله تَعَالَى ﴿فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ (شَيْئَانِ الْجَوَازُ حُكْمًا) يَعْنِي الصِّحَّةَ وَالنَّفَاذَ فِي الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ ذَكَرَهُ مُشَبَّهًا بِأَخْذِ الزِّيَادَةِ وَقَدْ قَالَ فِيهَا جَازَ فِي الْقَضَاءِ (وَالْإِبَاحَةُ وَقَدْ تَرَكَ فِي حَقِّ الْإِبَاحَةِ لِمُعَارِضٍ) وَهُوَ قَوْله تَعَالَى ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ﴾ الْآيَةُ فَبَقِيَ مَعْمُولًا بِهِ فِي الْبَاقِي: أَيْ الْجَوَازِ فِي الْقَضَاءِ. لَا يُقَالُ: الْجَوَازُ هُوَ الْإِبَاحَةُ وَيَتَلَازَمَانِ وُجُودًا وَعَدَمًا. لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّ مَعْنَى الْإِبَاحَةِ اسْتِوَاءُ الطَّرَفَيْنِ فَلَا أَجْرَ وَلَا وِزْرَ، وَمَعْنَى الْجَوَازِ مِنْ جَازَ: أَيْ مَرَّ.
وَبَعُدَ فَهُوَ النَّافِذُ شَرْعًا: أَيْ الصَّحِيحُ وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ سَبَبًا لِتَرَتُّبِ الْآثَارِ الشَّرْعِيَّةِ فَهُوَ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ مَعَ الْحِلِّ أَوْ الْحُرْمَةِ كَمَا فِي كُلِّ نَهْيٍ عَنْ أَمْرٍ شَرْعِيٍّ لَمْ يَقُمْ فِيهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لِعَيْنِهِ كَالْبَيْعِ وَقْتِ النِّدَاءِ وَالْبَيْعِ بِالْخَمْرِ فَلَا تَلَازُمَ، وَهُنَا كَذَلِكَ فَالْأَخْذُ حَرَامٌ فِي حَالِ عَدَمِ نُشُوزِهَا وَإِنْ كَانَ بِرِضَاهَا، وَلَوْ فَعَلَ كَانَ أَخْذُهُ سَبَبًا لِلتَّمَلُّكِ كَمَا فِي الْبَيْعِ فِيمَا قُلْنَا حَيْثُ يَمْلِكُ بِسَبَبٍ مَمْنُوعٍ.
لَا يُقَالُ: النَّهْيُ هُنَا عَنْ أَمْرٍ حِسِّيٍّ فَيُعْدَمُ وُجُودُهُ شَرْعًا فَيُخْرِجُهُ عَنْ انْتِهَاضِهِ سَبَبًا مُفِيدًا لِحُكْمِ الْمِلْكِ كَالنَّهْيِ عَنْ الزِّنَا، لِأَنَّ ذَلِكَ مُقْتَضَاهُ إذَا لَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لِغَيْرِهِ لَا لَعَيْنِهِ وَهُنَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لِزِيَادَةِ الْإِيحَاشِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إذَا تُرِكَ فِي حَقِّ الْإِبَاحَةِ لِمُعَارِضٍ يَلْزَمُ انْتِفَاءُ النَّفَاذِ شَرْعًا وَذَلِكَ لِأَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى النَّفَاذِ لَيْسَ إلَّا دَلَالَةٌ الْتِزَامِيَّةٌ لِلْإِبَاحَةِ لِأَنَّ دَلَالَتَهُ الْمُطَابِقِيَّةَ عَلَى الْإِبَاحَةِ، إذْ هِيَ الْمَعْنَى الْمُطَابِقِيِّ لِنَفْيِ الْجُنَاحِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْإِبَاحَةِ النَّفَاذُ، فَإِذَا ارْتَفَعَتْ الْإِبَاحَةُ ارْتَفَعَتْ بِلَازِمِهَا إلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ آخَرُ عَلَى ثُبُوتِ النَّفَاذِ شَرْعًا وَهُوَ مَعْدُومٌ، وَعَلَى هَذَا يَظْهَرُ قَوْلُ الظَّاهِرِيَّةِ (قَوْلُهُ لِإِطْلَاقِ مَا تَلَوْنَا بَدْءًا) أَيْ أَوَّلًا وَهُوَ قَوْله تَعَالَى ﴿فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ يَعْنِي بِطَرِيقِ دَلَالَتِهِ لَا عِبَارَتِهِ، فَإِنَّ عِبَارَتَهُ رَفْعُ الْجُنَاحِ عِنْدَ مُشَاقَّتِهِمَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي مُشَاقَّتِهِمَا مُشَاقَّتَهُ، فَإِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا افْتَدَتْ بِهِ مُطْلَقًا فِيمَا فِيهِ مُشَاقَّةٌ مِنْهُ فَأَخْذُهُ ذَلِكَ فِيمَا لَا مُشَاقَّةَ مِنْهُ فِيهِ أَوْلَى (قَوْلُهُ وَوَجْهُ الْأُخْرَى قَوْلُهُ ﵊ فِي امْرَأَةِ ثَابِتٍ إلَخْ) تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْحَدِيثِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute