بِخِلَافِ مَا إذَا دَفَعَ بِدَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّ التَّفْرِيقَ وَاجِبٌ بِالنَّصِّ.
(وَإِنْ قَرُبَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا فِي خِلَالِ الْإِطْعَامِ لَمْ يَسْتَأْنِفْ) لِأَنَّهُ تَعَالَى مَا شَرَطَ فِي الْإِطْعَامِ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْمَسِيسِ، إلَّا أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ الْمَسِيسِ قَبْلَهُ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِعْتَاقِ أَوْ الصَّوْمِ فَيَقَعَانِ بَعْدَ الْمَسِيسِ، وَالْمَنْعُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ لَا يَعْدَمُ الْمَشْرُوعِيَّةَ فِي نَفْسِهِ.
يَعْنِي إذَا دَفَعَ سِتِّينَ مَرَّةً لِوَاحِدٍ فِي يَوْمِ بِطَرِيقِ الْإِبَاحَةِ لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، لِأَنَّهُ قَبْلَ تَجَدُّدِ الْحَاجَةِ بِتَجَدُّدِ الْيَوْمِ الثَّانِي فَكَانَ إطْعَامُ الطَّاعِمِ.
أَمَّا لَوْ كَانَتْ الْمَرَّاتُ تَمْلِيكَاتٍ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ اُخْتُلِفَ فِيهِ، قِيلَ لَا يَجُوزُ أَيْضًا إلَّا عَنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ، وَصَحَّحَهُ فِي الْمُحِيطِ لِأَنَّ الْمُجَوَّزَ سَدُّ الْخَلَّةِ وَقَدْ انْدَفَعَتْ حَاجَةُ الطُّعْمِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِصَرْفِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ فَالصَّرْفُ إلَيْهِ بَعْدَهُ فِي يَوْمِهِ إطْعَامُ الطَّاعِمِ فَلَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ كَانَ إطْعَامًا حَقِيقَةً، وَكَالدَّفْعِ إلَى الْغَنِيِّ بِخِلَافِ الدَّفْعِ فِي كَفَّارَةٍ أُخْرَى وَدَفَعَ غَيْرَهُ مِنْ كَفَّارَةِ مِثْلِهَا لِأَنَّ الْمَدْفُوعَ كَالْهَالِكِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمَا. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَسَا مِسْكِينًا وَاحِدًا عَشْرَةَ أَثْوَابٍ فِي عَشْرَةِ أَيَّامٍ يَجُوزُ لِتَفَرُّقِ الدَّفْعِ مَعَ عَدَمِ تَجَدُّدِ الْحَاجَة إلَى الثَّوْبِ بِتَجَدُّدِ الْيَوْمِ. قُلْنَا: تَجَدُّدُ الْحَاجَةِ إلَى الثَّوْبِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ، وَلَا يُمْكِنُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ فِي الثَّوْبِ بِغَيْرِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ فَأُقِيمَ مُضِيُّ الزَّمَانِ مَقَامَهَا لِأَنَّهَا بِهِ تَتَجَدَّدُ، وَأَدْنَى ذَلِكَ يَوْمٌ لِجِنْسِ الْحَاجَاتِ وَمَا دُونَهُ سَاعَاتٌ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهَا.
وَقِيلَ يُجْزِئُهُ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ لَمَّا أُقِيمَ مَقَامَ حَقِيقَةِ الْإِطْعَامِ وَفَرَغَ مِنْ ذَلِكَ نُظِرَ إلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَمْلِيكٌ، وَالْحَاجَةُ بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ لَيْسَ لَهَا نِهَايَةٌ فَكَانَ الْمَدْفُوعُ أَوَّلًا هَالِكًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَدْفُوعِ ثَانِيًا كَمَا هُوَ هَالِكٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى دَافِعٍ آخَرَ وَكَفَّارَةٍ أُخْرَى، وَحِينَئِذٍ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ زَمَانٍ آخَرَ لِتَجَدُّدِ الْحَاجَةِ إذْ الْحَالُ قِيَامُهَا، وَرُبَّمَا يُشْعِرُ اقْتِصَارُ الْمُصَنِّفِ بَعْدَ حِكَايَةِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى تَوْجِيهِ هَذَا الْقَوْلِ بِاخْتِيَارِهِ إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَحْوَطُ.
وَنُكْتَةُ جَوَابِهِ مَنْعُ كَوْنِ التَّمْلِيكِ لِمَا أُقِيمَ مَقَامَ الْإِطْعَامِ اُعْتُبِرَ ذَاتُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَمْلِيكٌ بَلْ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ إطْعَامٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا أُقِيمَ مَقَامَ الشَّيْءِ اُعْتُبِرَتْ فِيهِ أَحْكَامُ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَأَمَّا مَا نَعْتَقِدُهُ فَعَدَمُ جَوَازِ التَّمْلِيكِ كَالْإِطْعَامِ لِوَاحِدٍ وَلَوْ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لِمَا فِيهِ مِنْ مُصَادَمَةِ النَّصِّ بِالْمَعْنَى مَعَ أَنَّهُ مَعْنًى مُعَارَضٌ بِمَعْنًى آخَرَ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ
(قَوْلُهُ وَإِنْ قَرُبَ الَّتِي إلَخْ) الْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجِبُ تَقْدِيمُ الْإِطْعَامِ عَلَى الْمَسِيسِ، فَإِنْ قَرُبَهَا فِي خِلَالِهِ لَمْ يَسْتَأْنِفْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى مَا شَرَطَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْمَسِيسِ، وَنَحْنُ لَا نَحْمِلُ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَإِنْ كَانَ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ بَعْدَ أَنْ يَكُونَا فِي حُكْمَيْنِ، وَالْوُجُوبُ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا لِتَوَهُّمِ وُقُوعِ الْكَفَّارَةِ بَعْدَ التَّمَاسِّ. بَيَانُهُ أَنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَى الْعِتْقِ أَوْ الصِّيَامِ فِي خِلَالِ الْإِطْعَامِ أَوْ قَبْلَهُ لَزِمَهُ التَّكْفِيرُ بِالْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، فَلَوْ جُوِّزَ لِلْعَاجِزِ عَنْهُمَا الْقُرْبَانُ قَبْلَ الْإِطْعَامِ ثُمَّ اتَّفَقَ قُدْرَتُهُ فَلَزِمَ التَّكْفِيرُ بِهِ لَزِمَ أَنْ يَقَعَ الْعِتْقُ بَعْدَ التَّمَاسِّ وَالْمُفْضِي إلَى الْمُمْتَنِعِ مُمْتَنِعٌ. وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ الْقُدْرَةَ حَالَ قِيَامِ الْعَجْزِ بِالْفَقْرِ وَالْمَرَضِ وَالْكِبَرِ وَالْمَرَضِ الَّذِي لَا يُرْجَى زَوَالُهُ أَمْرٌ مَوْهُومٌ، وَبِاعْتِبَارِ الْأُمُورِ الْمَوْهُومَةِ لَا تُثْبِتُ الْأَحْكَامَ ابْتِدَاءً بَلْ يَثْبُتُ الِاسْتِحْبَابُ، فَالْأَوْلَى الِاسْتِدْلَال بِمَا ذَكَرْنَا أَوَّلَ الْفَصْلِ مِنْ النَّصِّ، وَلَا يُعَلَّلُ بِمَا ذُكِرَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ (قَوْلُهُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ) هُوَ تَوَهُّمُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْعِتْقِ أَوْ الصَّوْمِ لَا يُعْدِمُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute