وَلَوْ شَهِدَا بَعْدَ مَوْتِهِ أَنَّهُ قَالَ فِي صِحَّتِهِ أَحَدُكُمَا حُرٌّ فَقَدْ قِيلَ: لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَصِيَّةٍ. وَقِيلَ تُقْبَلُ لِلشُّيُوعِ هُوَ الصَّحِيحُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَنَّ التَّدْبِيرَ حَيْثُمَا وَقَعَ يَكُونُ وَصِيَّةً مُعْتَبَرًا مِنْ الثُّلُثِ وَلَوْ فِي حَالِ الصِّحَّةِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ شَهَادَتُهُمَا بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ تُقْبَلُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْقَبُولِ فِيمَا تَقَدَّمَ عِنْدَهُ لِعَدَمِ خَصْمٍ مَعْلُومٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ الدَّعْوَى، وَإِذَا كَانَ وَصِيَّةً فَالْخَصْمُ فِيهَا هُوَ الْمُوصِي؛ لِأَنَّ تَنْفِيذَ الْوَصِيَّةِ مِنْ حُقُوقِ الْمُوصِي فَهُوَ الْخَصْمُ الْمُدَّعِي فِيهَا وَهُوَ مَعْلُومٌ وَعَنْهُ نَائِبٌ مَعْلُومٌ هُوَ الْوَصِيُّ أَوْ الْوَارِثُ، بِخِلَافِ حَالَةِ الْحَيَاةِ فَإِنَّ الْخَصْمَ فِي إثْبَاتِ الْعِتْقِ لَيْسَ هُوَ السَّيِّدُ لِإِنْكَارِهِ بَلْ هُوَ الْعَبْدُ وَهُوَ مَجْهُولٌ.
وَوَجْهٌ آخَرُ لِلِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ أَنَّ الْخَصْمَ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي الْعِتْقِ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْمُوصِيَ كَانَ كُلًّا مِنْ الْعَبْدَيْنِ وَهُمَا مُعَيَّنَانِ، وَفِي حَالَةِ الْحَيَاةِ لَا تَصِحُّ خُصُومَتُهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتِقْ مِنْهُمَا شَيْءٌ وَالْمُعْتَقُ الْمُبْهَمُ بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ الْبَيَانِ فَإِنَّ الْعِتْقَ حِينَئِذٍ يَشِيعُ فِيهِمَا فَيَعْتِقُ مِنْ كُلٍّ نِصْفُهُ عَلَى مَا عُرِفَ فِيمَنْ أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ وَمَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا خَصْمًا مَعْلُومًا. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَصْمِ هُنَا مَنْ تَكُونُ الشَّهَادَةُ عَلَى وَفْقِ دَعْوَاهُ وَلَا تُقَامُ الْبَيِّنَةُ إلَّا عَلَى مُنْكِرٍ فَفَرَضَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ أَنْ يَكُونَ الْوَرَثَةُ مُنْكِرِينَ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ وَعَنْهُ خَلَفٌ وَهُوَ الْوَصِيُّ أَوْ وَارِثُهُ: يَعْنِي الْوَصِيَّ إنْ كَانَ الْوَرَثَةُ مُنْكِرِينَ أَوْ الْوَرَثَةَ إنْ كَانَ الْوَصِيُّ مُنْكِرًا فَقِيلَ: فَيُشْكِلُ مَا لَوْ كَانَ كُلٌّ مِنْ الْوَصِيِّ وَالْوَارِثِ مُنْكِرًا إذْ لَا تَبْطُلُ الْبَيِّنَةُ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ بِوَصِيَّةٍ وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ خَلَفًا وَلَا مُخَلِّصَ إلَّا بِاعْتِبَارِ جَعْلِ الْمَيِّتِ مُدَّعِيًا تَقْدِيرًا، وَأَيْضًا قَوْلُهُ وَأَدَّيَا الشَّهَادَةَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ إلَخْ يُفِيدُ أَنَّهَا تُقْبَلُ فِي حَيَاتِهِ وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ قَبُولَهَا بَعْدَ مَوْتِهِ بِاعْتِبَارِهَا وَصِيَّةً لِاعْتِبَارِهِ مُدَّعِيًا وَعَدَمُ قَبُولِهَا قَبْلَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ الْعَبْدَانِ وَهُمَا غَيْرُ مَنْ أُثْبِتَ فِيهِ الْعِتْقُ أَعْنِي الْمُبْهَمَ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ إنْزَالَهُ مُدَّعِيًا لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَأَمَّا قَبْلَ مَوْتِهِ فَهُوَ مُنْكِرٌ، وَلِهَذَا اُحْتِيجَ إلَى الشَّهَادَةِ، وَرُدَّتْ لِعَدَمِ الْمُدَّعِي وَلَا مُخَلِّصَ إلَّا بِتَقْيِيدِهِ بِمَا إذَا كَانَ الْمَرِيضُ قَدْ أُصْمِتَ حَالَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَاسْتَمَرَّ كَذَلِكَ حَتَّى مَاتَ، وَعَلَى هَذَا يَجِبُ أَنْ يُؤَخَّرَ الْقَضَاءُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ إلَى أَنْ يَمُوتَ فَيُقْضَى بِهَا وَلَا يُحْتَاجُ إلَى إعَادَتِهَا، أَوْ يَعِيشَ فَيُطْلَقَ لِسَانُهُ فَيَرُدَّ لِعَدَمِ الْخَصْمِ الْمُدَّعِي.
(قَوْلُهُ وَلَوْ شَهِدَا بَعْدَ مَوْتِهِ أَنَّهُ قَالَ فِي صِحَّتِهِ أَحَدُكُمَا حُرٌّ) لَا رِوَايَةَ فِيهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي تَفْرِيعِهَا عَلَى قَوْلِهِ (فَقِيلَ لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَصِيَّةٍ) لِإِسْنَادِهِمَا الْعِتْقَ الْمُنَجَّزَ إلَى حَالَةِ الصِّحَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ الْمَيِّتُ مُدَّعِيًا تَقْدِيرًا (وَقِيلَ تُقْبَلُ) لِأَنَّ الْعِتْقَ شَاعَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَيَصِحُّ دَعْوَاهُمَا كَمَا ذَكَرْنَا، وَصَحَّحَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَبُولَهَا قَالَ: لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مَعْلُولًا بِعِلَّتَيْنِ فَيَتَعَدَّى بِإِحْدَاهُمَا، وَتَبِعَهُ صَاحِبُ الْكَافِي وَقَالَ هُوَ الْأَصَحُّ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: شُيُوعُ الْعِتْقِ الَّذِي هُوَ مَبْنَى صِحَّةِ كَوْنِ الْعَبْدَيْنِ مُدَّعِيَيْنِ يَتَوَقَّفُ عَلَى ثُبُوتِ قَوْلِهِ أَحَدُكُمَا حُرٌّ وَلَا مُثْبِتَ لَهُ إلَّا الشَّهَادَةُ وَصِحَّتُهَا مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ مِنْ الْخَصْمِ فَصَارَ ثُبُوتُ شُيُوعِ الْعِتْقِ مُتَوَقِّفًا عَلَى ثُبُوتِ الشَّهَادَةِ، فَلَوْ أُثْبِتَتْ الشَّهَادَةُ بِصِحَّةِ خُصُومَتِهِمَا وَهِيَ الْمُتَوَقِّفَةُ عَلَى ثُبُوتِ الْعِتْقِ فِيهِمَا شَائِعًا لَزِمَ الدَّوْرُ، وَإِذَا لَمْ يَتِمَّ وَجْهُ ثُبُوتِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ عَلَى قَوْلِهِ لَزِمَ تَرْجِيحُ الْقَوْلِ بِعَدَمِ قَبُولِهَا وَعَلَى هَذَا يَبْطُلُ الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ وَجْهَيْ الِاسْتِحْسَانِ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute