وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى ﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ﴾ الْآيَةَ، وَكَلِمَةُ أَوْ لِلتَّخَيُّرِ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَحَدَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ.
قَالَ (فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَحَدِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ﵀: يُخَيَّرُ لِإِطْلَاقِ النَّصِّ. وَلَنَا قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ وَهِيَ كَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ.
أَوْ شَعِيرٍ ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ بِإِسْنَادِهِ إلَى عُمَرَ ﵁ قَالَ: صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ وَنِصْفُهُ مِنْ بُرٍّ.
وَبِإِسْنَادِهِ إلَى عَلِيٍّ ﵁ قَالَ: كَفَّارَةُ الْيَمِينِ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ. وَبِسَنَدِهِ إلَى الْحَسَنِ ﵁ قَالَ: يُغَدِّيهِمْ وَيُعَشِّيهِمْ. وَبِإِسْنَادِهِ إلَى مُجَاهِدٍ قَالَ: كُلُّ كَفَّارَةٍ فِي الْقُرْآنِ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ. وَلَوْ غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ وَفِيهِمْ فَطِيمٌ أَوْ فَوْقُهُ سِنًّا لَمْ يَجُزْ عَنْ إطْعَامِ مِسْكِينٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُغَدِّيَهُمْ وَيُعَشِّيَهُمْ بِخُبْزٍ إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ بُرًّا لَا يُشْتَرَطُ الْإِدَامُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَبِإِدَامٍ.
وَيَجُوزُ فِي الْإِطْعَامِ كُلٌّ مِنْ التَّمْلِيكِ وَالْإِبَاحَةِ وَتَقَدَّمَ (وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى ﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ وَكَلِمَةُ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَحَدَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ) وَلِلْعَبْدِ الْخِيَارُ فِي تَعْيِينِ أَيُّهَا شَاءَ. وَيَتَعَيَّنُ الْوَاجِبُ عَيْنًا بِفِعْلِ الْعَبْدِ وَالْمَسْأَلَةُ طَوِيلَةٌ فِي الْأُصُولِ، وَدَخَلَ فِيمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْعِتْقِ وَالْكِسْوَةِ وَالْإِطْعَامِ الْعَبْدُ لَا يَكُونُ كَفَّارَةُ يَمِينِهِ إلَّا بِالصَّوْمِ. وَلَوْ أَعْتَقَ عَنْهُ مَوْلَاهُ أَوْ أَطْعَمَ أَوْ كَسَا لَا يُجْزِيهِ وَكَذَا الْمُكَاتَبُ وَالْمُسْتَسْعَى، وَلَوْ صَامَ الْعَبْدُ فَيُعْتَقُ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ وَلَوْ بِسَاعَةٍ فَأَصَابَ مَالًا وَجَبَ عَلَيْهِ اسْتِئْنَافُ الْكَفَّارَةِ بِالْمَالِ.
(قَوْلُهُ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَحَدِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ) مِنْ الْإِعْتَاقِ وَالْكِسْوَةِ وَالْإِطْعَامِ (كَانَ عَلَيْهِ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُخَيَّرُ) بَيْنَ التَّتَابُعِ وَالتَّفْرِيقِ (لِإِطْلَاقِ النَّصِّ) وَهُوَ قَوْله تَعَالَى ﴿فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ﴾ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ شَرَطَ التَّتَابُعَ كَقَوْلِنَا وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ (وَلَنَا قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ ﵁ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ وَهِيَ كَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ) لِشُهْرَتِهَا عَلَى مَا قِيلَ إلَى زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ ﵁، وَالْخَبَرُ الْمَشْهُورُ يَجُوزُ تَقْيِيدُ النَّصِّ الْقَاطِعِ بِهِ فَيُقَيَّدُ ذَلِكَ الْمُطْلَقُ بِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: الشَّافِعِيُّ كَانَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْكُمْ لِأَنَّهُ يَحْمِلُ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَإِنْ كَانَا فِي حَادِثَيْنِ وَأَنْتُمْ تَحْمِلُونَهُ فِي حَادِثَةٍ ثُمَّ إنَّكُمْ جَرَيْتُمْ عَلَى مُوجِبِ ذَلِكَ هُنَا وَتَرَكْتُمُوهُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ فِي قَوْلِهِ «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ» وَقَوْلُهُ «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ». أُجِيبَ عَنَّا بِأَنَا إنَّمَا نَحْمِلُ فِي الْحَادِثَةِ الْوَاحِدَةِ لِلضَّرُورَةِ وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ مَطْلُوبًا بِقَيْدٍ زَائِدٍ عَلَى الْمُطْلَقِ، وَبِقَيْدِ إطْلَاقِهِ لِلتَّنَافِي بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ إلَّا بِقَيْدِ التَّتَابُعِ وَلَا يُجْزِي التَّفْرِيقُ وَالثَّانِي يَقْتَضِي جَوَازَهُ مُفَرَّقًا كَجَوَازِهِ مُتَتَابِعًا، وَإِذَا وَجَبَ الْقَيْدُ الْأَوَّلُ لَزِمَهُ انْتِفَاءُ الثَّانِي فَلَزِمَ الْحَمْلُ ضَرُورَةً، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ مُنْتَفِيَةٌ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ لِوُرُودِ النَّصَّيْنِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ فِي الْأَسْبَابِ، وَلَا مُنَافَاةَ فِي الْأَسْبَابِ فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ سَبَبًا، وَهَذَا كَلَامٌ مُحْتَاجٌ إلَى تَحْقِيقٍ.
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْحَمْلَ لَمَّا لَمْ يَجِبْ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَهِيَ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُمَا إلَّا لَوْ قُلْنَا بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ الْحَاصِلُ مِنْ الْمُطْلَقِ أَنَّ مِلْكَ الْعَبْدِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ عَنْهُ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا. وَالْحَاصِلُ مِنْ الْمُقَيَّدِ أَنَّ مِلْكَ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ سَبَبٌ وَغَيْرُ الْمُسْلِمِ لَيْسَ سَبَبًا لِفَرْضِ دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ فَيَتَعَارَضَانِ فِي غَيْرِ الْمُسْلِمِ، فَإِذَا فُرِضَ تَقْدِيمُ الْمَفْهُومِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَزِمَ انْتِفَاءُ سَبَبِيَّةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ، وَلَزِمَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْمُسْلِمَ فَقَطْ هُوَ السَّبَبُ وَهُوَ الْحَمْلُ ضَرُورَةً لَكِنَّا لَمْ نَقُلْ بِهِ فَبَقِيَ مُقْتَضَى الْمُطْلَقِ بِلَا مُعَارِضٍ وَهُوَ أَنَّ الْمُسْلِمَ وَغَيْرَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute