ثُمَّ إذَا فَعَلَ مِمَّا حَرَّمَهُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا حَنِثَ وَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ وَهُوَ الْمَعْنَى مِنْ الِاسْتِبَاحَةِ الْمَذْكُورَةِ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ إذَا ثَبَتَ تَنَاوَلَ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ.
مَالِكٌ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ قَلْبُ الْمَشْرُوعِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ وَهُوَ الْيَمِينُ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِهِ فِي الْجَوَارِي، وَالنِّسَاءُ فِي مَعْنَاهَا فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِهِ، وَالِاسْتِدْلَالُ بَعْدَ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ إلَى قَوْلِهِ ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾ فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ ﷺ حَرَّمَ شَيْئًا مِمَّا هُوَ حَلَالٌ، وَأَنَّهُ فَرَضَ لَهُ تَحِلَّتَهُ فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ﴿تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾ وَعُلِمَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ تَحْرِيمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ يَمِينًا فِيهَا الْكَفَّارَةُ غَيْرَ مُفِيدٍ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْآنَ فِي تَخْصِيصِهِ بِمَوْرِدِهِ أَوْ تَعْمِيمِهِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ وَهُوَ قَوْلُهُ ﴿مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ وَقَدْ يَدْفَعُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ خُصُوصُ مَا وَقَعَ تَحْرِيمُهُ: أَيْ لِمَ حَرَّمْت مَا كَانَ حَلَالًا لَك، وَلِذَا قَالَ ﴿تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ﴾ وَابْتِغَاءُ مَرْضَاتِهِنَّ لَا يَتَعَلَّقُ بِعُمُومِ تَحْرِيمِ الْمُبَاحَاتِ بَلْ بِبَعْضٍ يَسِيرٍ، بَلْ الْجَوَابُ أَنَّهُ كَمَا وَرَدَ أَنَّهَا أُنْزِلَتْ فِي تَحْرِيمِ مَارِيَةَ وَرَدَ أَنَّهَا أُنْزِلَتْ فِي تَحْرِيمِ الْعَسَلِ. فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ ﵂ «كَانَ ﷺ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلًا فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ عَلَى أَنَّ أَيَّتُنَا إنْ دَخَلَ عَلَيْهَا فَلْتَقُلْ إنِّي أَجِدُ مِنْكِ رِيحَ مَغَافِيرَ فَدَخَلَ عَلَى إحْدَانَا فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا، بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ وَلَنْ أَعُودَ إلَيْهِ فَنَزَلَتْ ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ﴾» وَهَذَا أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ لِأَنَّ رَاوِيَهُ صَاحِبَةُ الْقِصَّةِ وَفِيهِ زِيَادَةُ الصِّحَّةِ وَحِينَئِذٍ لَا مَانِعَ مِنْ كَوْنِ نُزُولِهَا فِي الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا وقَوْله تَعَالَى ﴿تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ﴾ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فِي أَنَّهَا فِي تَحْرِيمِ مَارِيَةَ لِأَنَّ مَرْضَاتَهُنَّ كَانَ فِي ذَلِكَ لَا فِي تَرْكِ الْعَسَلِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَيْضًا فِي تَرْكِ شُرْبِهِ عِنْدَ الضَّرَّةِ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ رُوِيَ «أَنَّهُ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَذُوقُهُ» فَلِذَلِكَ سُمِّيَ تَحْرِيمًا وَلَزِمَتْ التَّحِلَّةُ أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْآيَةِ وَلَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْكَمَ بِهِ وَيُقَيَّدَ بِهِ حُكْمُ النَّصِّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ هُوَ قَوْلُهُ «وَلَنْ أَعُودَ إلَيْهِ» وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِيَمِينٍ مُوجِبٍ لِلْكَفَّارَةِ عِنْدَ أَحَدٍ فَحَيْثُ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَا يُفِيدُ أَنَّ الْوَاقِعَ مِنْهُ كَانَ يَمِينًا وَجَبَ الْحُكْمُ بِأَنَّهُ كَانَ مِنْهُ ﷺ مَعَ ذَلِكَ الْقَوْلِ قَوْلٌ آخَرُ لَمْ يُرْوَ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ ثَبَتَ بِهِ الْيَمِينُ فَجَازَ كَوْنُهُ قَوْلَهُ وَاَللَّهِ لَا أَذُوقُهُ وَجَازَ كَوْنُهُ لَفْظ التَّحْرِيمِ، إلَّا أَنَّ لَفْظَ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ ظَاهِرٌ فِي إرَادَةِ قَالَ حَرَّمْت كَذَا وَنَحْوَهُ، بِخِلَافِ الْحَلِفِ عَلَى تَرْكِهِ.
وَحَاصِلُ الْوَجْهِ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ أَنَّ لَفْظَهُ يُنَبِّئُ عَنْ إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ، وَقَدْ أَمْكَنَ إعْمَالُهُ بِإِثْبَاتِ حُرْمَتِهِ: أَيْ حُرْمَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْيَمِينُ بِإِثْبَاتِ مُوجِبِ الْيَمِينِ وَهُوَ الْبِرُّ إذَا لَمْ يَفْعَلْهُ وَالْكَفَّارَةُ إنْ فَعَلَهُ صَوْنًا لِكَلَامِهِ عَنْ الْإِلْغَاءِ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ عَلَيْهِ فَعَمَّ الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ النِّسَاءَ وَغَيْرَهُنَّ (قَوْلُهُ ثُمَّ إذَا فَعَلَ مِمَّا حَرَّمَهُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا وَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ وَهُوَ الْمَعْنَى مِنْ الِاسْتِبَاحَةِ الْمَذْكُورَةِ) فِي قَوْلِهِ وَعَلَيْهِ إنْ اسْتَبَاحَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَبِهِ عُرِفَ أَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ لَمْ يَصِرْ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ الْمُحَرَّمُ لِنَفْسِهِ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ قَوْلُهُ اسْتَبَاحَهُ، وَإِنَّمَا يَحْنَثُ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ (لِأَنَّ التَّحْرِيمَ إذَا ثَبَتَ تَنَاوَلَ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ) فَبِتَنَاوُلِ جُزْءٍ يَلْزَمُهُ الْحِنْثُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute