الِامْتِنَاعِ فِيهِ عَادَةً، وَالْمُؤَبَّدُ لَا يُقْصَدُ غَالِبًا لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَبَدِ، وَلَوْ سَكَتَ عَنْهُ يَتَأَبَّدُ فَيَتَعَيَّنُ مَا ذَكَرْنَا.
وَكَذَا الزَّمَانُ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْحِينِ، يُقَالُ مَا رَأَيْتُك مُنْذُ حِينٍ وَمُنْذُ زَمَانٍ بِمَعْنَى وَهَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، أَمَّا إذَا نَوَى شَيْئًا فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ (وَكَذَلِكَ الدَّهْرُ عِنْدَهُمَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الدَّهْرُ لَا أَدْرِي مَا هُوَ) وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي الْمُنَكَّرِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، أَمَّا الْمُعَرَّفُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يُرَادُ بِهِ الْأَبَدُ عُرْفًا. لَهُمَا أَنَّ دَهْرًا يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْحِينِ وَالزَّمَانِ يُقَالُ مَا رَأَيْتُك مُنْذُ حِينٍ وَمُنْذُ دَهْرٍ بِمَعْنَى وَأَبُو حَنِيفَةَ تَوَقَّفَ فِي تَقْدِيرِهِ لِأَنَّ اللُّغَاتِ لَا تُدْرَكُ قِيَاسًا وَالْعُرْفُ لَمْ يُعْرَفْ اسْتِمْرَارُهُ لِاخْتِلَافٍ فِي الِاسْتِعْمَالِ
كُلُّ هَذَا إذَا لَمْ يَنْوِ مِقْدَارًا مُعَيَّنًا مِنْ الزَّمَانِ، فَإِنْ نَوَى مِقْدَارًا صُدِّقَ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْحِينِ وَالزَّمَانِ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَالْمُتَوَسِّطِ وَاسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ ذَلِكَ، فَفِي الْقَلِيلِ قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ:
فَبِتُّ كَأَنِّي سَاوَرَتْنِي ضَئِيلَةٌ … مِنْ الرَّقْشِ فِي أَنْيَابِهَا السُّمُّ نَاقِعُ
تَبَادَرَهَا الرَّاقُونَ مِنْ سُوءِ سُمِّهَا … تُطْلِقُهُ حِينًا وَحِينًا تُرَاجِعُ
يُرِيدُ أَنَّ السُّمَّ تَارَةً يَخِفُّ أَلَمُهُ وَتَارَةً يَشْتَدُّ، وَأَمَّا فِي الْكَثِيرِ فَالْمُفَسِّرُونَ فِي هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنْ الدَّهْرِ أَنَّهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً.
وَأَمَّا فِي الْمُتَوَسِّطِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ وَذَلِكَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵁، لِأَنَّ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ الطَّلْعُ إلَى أَنْ يَصِيرَ رُطَبًا سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَلَمَّا وَقَعَ الِاسْتِعْمَالُ كَذَلِكَ وَلَا نِيَّةَ مُعَيَّنَةَ لِلْحَالِفِ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْوَسَطِ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَلِأَنَّ الْيَسِيرَ لَا يُقْصَدُ بِالْحَلِفِ وَإِلَّا لَمْ يَحْلِفْ لِتَحَقُّقِ الِامْتِنَاعِ عَنْهُ عَادَةً بِلَا يَمِينٍ. وَالْمَدِيدُ هُوَ أَرْبَعُونَ سَنَةً لَا يُقْصَدُ بِالْحَلِفِ عَادَةً لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْأَبَدِ، فَمُرِيدُهُ خَارِجٌ عَنْ الْعَادَةِ إذْ لَمْ يُسْمَعْ مَنْ يَقُولُ لَا أُكَلِّمُهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً مُقَيَّدًا بِهَا، وَلَوْ سَكَتَ عَنْ الْحِينِ وَمَا مَعَهُ تَأَبَّدَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ حِينَئِذٍ لَنْ يَرِدَ أَقَلَّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ مِنْ الزَّمَانِ وَلَا الْأَبَدِ وَلَا الْأَرْبَعِينَ فَيُحَكَّمُ الْوَسَطُ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَالشَّافِعِيُّ يَصْرِفُهُ إلَى الْأَقَلِّ وَهُوَ سَاعَةٌ وَعَرَفْت أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ وَإِلَّا تَرَكَ ذِكْرُهُ وَيَحْصُلُ بِلَا حَلِفٍ، وَالزَّمَانُ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْحِينِ، يُقَالُ مَا رَأَيْتُك مُنْذُ زَمَانٍ كَمَا يُقَالُ مُنْذُ حِينٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ ثَبَتَ اسْتِعْمَالُهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَلِأَرْبَعِينَ سَنَةً وَلِأَقَلَّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ، بَلْ إنَّهُ ثَبَتَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَدِيدِ وَالْقَصِيرِ وَالْمُتَوَسِّطِ، وَهُوَ أَخُو الْحِينِ فِي الْوَضْعِ وَالِاسْتِعْمَالِ فِي ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ فِي خُصُوصِ الْمُدَّةِ فَيُصْرَفُ إلَى مَا سُمِعَ مُتَوَسِّطًا.
ثُمَّ قِيلَ: هَذَا إنْ تَمَّ فِي زَمَانِ الْمُنَكَّرِ لَمْ يَتِمَّ فِي الْمُعَرَّفِ، بَلْ الظَّاهِرُ فِيهِ أَنَّهُ لِلْأَبَدِ كَالدَّهْرِ وَالْعُمْرِ وَلِذَا صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ، فَلَوْ قَالَ لَا أُكَلِّمُهُ الزَّمَانَ إلَّا سَنَةً صَحَّ، وَعَهْدِيَّةُ السِّتَّةِ أَشْهُرٍ إنَّمَا تَثْبُتُ فِي لَفْظِ الْحِينِ وَكَوْنُ الزَّمَانِ مِثْلُهُ إنْ أُرِيدَ فِي الْوَضْعِ فَمُسَلَّمٌ وَلَا يُفِيدُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يُحْمَلَ اللَّفْظُ عِنْدَ عَدَمِ الْمُعَيَّنِ لِخُصُوصِ مُدَّةٍ عَلَى الْمُدَّةِ الَّتِي اُسْتُعْمِلَ فِيهَا وَسَطًا، وَإِنْ أُرِيد فِي الِاسْتِعْمَالِ فَيَحْتَاجُ إلَى ثَبْتٍ مِنْ مَوَارِدِ الِاسْتِعْمَالِ وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا وَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ السِّتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْيَمِينِ، بِخِلَافِ لَأَصُومَنَّ حِينًا أَوْ زَمَانًا كَانَ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَ أَيَّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ شَاءَ وَتَقَدَّمَ الْفَرْقُ (قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ الدَّهْرُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ) يَعْنِي الْمُنَكَّرَ يَنْصَرِفُ إلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فِي مِقْدَارٍ مِنْ الزَّمَانِ، فَإِنْ كَانَ عَمِلَ بِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute