ثُمَّ قَدَّرَ الْأَدْنَى فِي الْكِتَابِ بِثَلَاثِ جَلَدَاتٍ لِأَنَّ مَا دُونَهَا لَا يَقَعُ بِهِ الزَّجْرُ، وَذَكَرَ مَشَايِخُنَا أَنَّ أَدْنَاهُ عَلَى مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَنْزَجِرُ لِأَنَّهُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ
قِيلَ إنَّ أَبَا يُوسُفَ أَخَذَ النِّصْفَ مِنْ حَدِّ الْأَحْرَارِ وَأَكْثَرُهُ مِائَةٌ، وَالنِّصْفَ مِنْ حَدِّ الْعَبِيدِ وَأَكْثَرُهُ خَمْسُونَ فَتَحْصُلُ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ.
وَمَنَعَ صِحَّةَ اعْتِبَارِ هَذَا الْأَخْذِ وَهُوَ لَا يَضُرُّهُ بَعْدَ أَنْ أَثَرَهُ عَنْ عَلِيٍّ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ أَنَّهُ قَلَّدَ عَلِيًّا فِيهِ، وَكَوْنُهُ لَا يَعْقِلُ يُؤَكِّدُهُ، إذْ الْغَرَضُ أَنَّ مَا لَا يُدْرَكُ بِالرَّأْيِ يَجِبُ تَقْلِيدُ الصَّحَابِيِّ فِيهِ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ جَوَابُهُ بِمَنْعِ ثُبُوتِهِ عَنْ عَلِيٍّ كَمَا قَالَ أَهْلُ الْحَدِيثِ إنَّهُ غَرِيبٌ، وَنَقَلَهُ الْبَغَوِيّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَبِقَوْلِنَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْحُرِّ، وَقَالَ فِي الْعَبْدِ تِسْعَةَ عَشَرَ لِأَنَّ حَدَّ الْعَبْدِ فِي الْخَمْرِ عِنْدَهُ عِشْرُونَ وَفِي الْأَحْرَارِ أَرْبَعُونَ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا حَدَّ لِأَكْثَرِهِ، فَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَزِيدَ فِي التَّعْزِيرِ عَلَى الْحَدِّ إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ مُجَانِبًا لِهَوَى النَّفْسِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ مَعْنَ بْنَ زَائِدَةَ عَمِلَ خَاتَمًا عَلَى نَقْشِ خَاتَمِ بَيْتِ الْمَالِ ثُمَّ جَاءَ بِهِ لِصَاحِبِ بَيْتِ الْمَالِ فَأَخَذَ مِنْهُ مَالًا، فَبَلَغَ عُمَرَ ذَلِكَ فَضَرَبَهُ مِائَةً وَحَبَسَهُ، فَكُلِّمَ فِيهِ فَضَرَبَهُ مِائَةً أُخْرَى، فَكُلِّمَ فِيهِ فَضَرَبَهُ مِائَةً وَنَفَاهُ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ عَلِيًّا أُتِيَ بِالنَّجَاشِيِّ الشَّاعِرِ قَدْ شَرِبَ خَمْرًا فِي رَمَضَانَ فَضَرَبَهُ ثَمَانِينَ لِلشُّرْبِ وَعِشْرِينَ سَوْطًا لِفِطْرِهِ فِي رَمَضَانَ.
وَلَنَا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ، وَلِأَنَّ الْعُقُوبَةَ عَلَى قَدْرِ الْجِنَايَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَ بِمَا هُوَ أَهْوَنُ مِنْ الزِّنَا فَوْقَ مَا فُرِضَ بِالزِّنَا، وَحَدِيثُ مَعْنٍ يَحْتَمِلُ أَنَّ لَهُ ذُنُوبًا كَثِيرَةً أَوْ كَانَ ذَنْبُهُ يَشْتَمِلُ كَثْرَةً مِنْهَا لِتَزْوِيرِهِ وَأَخْذِهِ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ بِغَيْرِ حَقِّهِ وَفَتْحِهِ بَابَ هَذِهِ الْحِيلَةِ مِمَّنْ كَانَتْ نَفْسُهُ عَارِيَّةً عَنْ اسْتِشْرَافِهَا، وَحَدِيثُ النَّجَاشِيِّ ظَاهِرٌ أَنْ لَا احْتِجَاجَ فِيهِ، فَإِنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّ ضَرْبَهُ الْعِشْرِينَ فَوْقَ الثَّمَانِينَ لِفِطْرِهِ فِي رَمَضَانَ، وَقَدْ نَصَّتْ عَلَى أَنَّهُ لِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى الْقَائِلَةُ إنَّ عَلِيًّا أُتِيَ بِالنَّجَاشِيِّ الشَّاعِرِ وَقَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي رَمَضَانَ فَضَرَبَهُ ثَمَانِينَ ثُمَّ ضَرَبَهُ مِنْ الْغَدِ عِشْرِينَ، وَقَالَ: ضَرَبْنَاك الْعِشْرِينَ بِجُرْأَتِك عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِفْطَارِك فِي رَمَضَانَ، فَأَيْنَ الزِّيَادَةُ فِي التَّعْزِيرِ عَلَى الْحَدِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وَعَنْ أَحْمَدَ لَا يُزَادُ عَلَى عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ، وَعَلَيْهِ حَمَلَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ لَمَّا اُشْتُهِرَ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ ﵊ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي بُرْدَةَ أَنَّهُ قَالَ «لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ» وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهُ وَبَعْضُ الثِّقَاتِ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِدَلِيلِ عَمَلِ الصَّحَابَةِ بِخِلَافِهِ مِنْ غَيْرِ إنْكَارِ أَحَدٍ.
وَكَتَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى ﵄ أَنْ لَا تَبْلُغَ بِنَكَالٍ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ سَوْطًا، وَيُرْوَى ثَلَاثِينَ إلَى الْأَرْبَعِينَ. وَبِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقْدِيرِ أَكْثَرِهِ بِتِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ يُعْرَفُ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّعْزِيرِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ بَلْ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ: أَيْ مِنْ أَنْوَاعِهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ بِالضَّرْبِ وَبِغَيْرِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، أَمَّا إنْ اقْتَضَى رَأْيُهُ الضَّرْبَ فِي خُصُوصِ الْوَاقِعَةِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَزِيدُ عَلَى تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ (قَوْلُهُ ثُمَّ قَدَّرَ الْأَدْنَى فِي الْكِتَابِ) يَعْنِي الْقُدُورِيَّ (بِثَلَاثِ جَلَدَاتٍ، لِأَنَّ مَا دُونَهَا لَا يَقَعُ بِهِ الزَّجْرُ، وَذَكَرَ مَشَايِخُنَا أَنَّ أَدْنَاهُ عَلَى مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ بِقَدْرِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَنْزَجِرُ بِهِ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ) وَجْهُ مُخَالَفَةِ هَذَا الْكَلَامِ لِقَوْلِ الْقُدُورِيِّ أَنَّهُ لَوْ رَأَى أَنَّهُ يَنْزَجِرُ بِسَوْطٍ وَاحِدٍ اكْتَفَى بِهِ، وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْخُلَاصَةِ فَقَالَ: وَاخْتِيَارُ التَّعْزِيرِ إلَى الْقَاضِي مِنْ وَاحِدٍ إلَى تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ وَمُقْتَضَى قَوْلِ الْقُدُورِيِّ أَنَّهُ إذَا وَجَبَ التَّعْزِيرُ بِنَوْعِ الضَّرْبِ فَرَأَى الْإِمَامُ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ يَنْزَجِرُ بِسَوْطٍ وَاحِدٍ يُكْمِلُ لَهُ ثَلَاثَةً، لِأَنَّهُ حَيْثُ وَجَبَ التَّعْزِيرُ بِالضَّرْبِ فَأَقَلُّ مَا يَلْزَمُ أَقَلُّهُ إذْ لَيْسَ وَرَاءَ الْأَقَلِّ شَيْءٌ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ رَأَى أَنَّهُ إنَّمَا يَنْزَجِرُ بِعِشْرِينَ كَانَتْ الْعِشْرُونَ أَقَلَّ مَا يَجِبُ تَعْزِيرُهُ بِهِ فَلَا يَجُوزُ نَقْصُهُ عَنْهُ.
فَلَوْ رَأَى أَنَّهُ لَا يَنْزَجِرُ بِأَقَلَّ مِنْ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ كَانَ عَلَى هَذَا أَكْثَرُ التَّعْزِيرِ فَإِنَّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute