. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَهِيَ فِعْلَةٍ بِكَسْرِ الْفَاءِ مِنْ السَّيْرِ فَيَكُونُ لِبَيَانِ هَيْئَةِ السَّيْرِ وَحَالَتُهُ؛ لِأَنَّ فِعْلَةً لِلْهَيْئَةِ كَجِلْسَةٍ وَخِمْرَةٍ، وَقَدْ اُسْتُعْمِلَتْ كَذَلِكَ فِي السَّيْرِ الْمَعْنَوِيِّ حَيْثُ قَالُوا فِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: سَارَ فِينَا بِسِيرَةِ الْعُمْرَيْنِ، لَكِنْ غَلَبَ فِي لِسَانِ أَهْلِ الشَّرْعِ عَلَى الطَّرَائِقِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي غَزْوِ الْكُفَّارِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ كَوْنَهَا تَسْتَلْزِمُ السَّيْرَ وَقَطْعَ الْمَسَافَةِ. وَقَدْ يُقَالُ كِتَابُ الْجِهَادِ، وَهُوَ أَيْضًا أَعَمُّ غَلَبَ فِي عُرْفِهِمْ عَلَى جِهَادِ الْكُفَّارِ، وَهُوَ دَعَوْتُهُمْ إلَى الدِّينِ الْحَقِّ، وَقِتَالُهُمْ إنْ لَمْ يَقْبَلُوا، وَفِي غَيْرِ كُتُبِ الْفِقْهِ يُقَالُ: كِتَابُ الْمَغَازِي، وَهُوَ أَيْضًا أَعَمُّ، جَمْعُ مَغْزَاةٍ مَصْدَرًا سَمَاعِيًّا لِغَزَا دَالًّا عَلَى الْوَحْدَةِ، وَالْقِيَاسِيُّ غَزْوٌ وَغَزْوَةٌ لِلْوَحْدَةِ كَضَرْبَةٍ وَضَرْبٍ وَهُوَ قَصْدُ الْعَدُوِّ لِلْقِتَالِ خُصَّ فِي عُرْفِهِمْ بِقِتَالِ الْكُفَّارِ.
هَذَا وَفَضْلُ الْجِهَادِ عَظِيمٌ، وَكَيْفَ لَا وَحَاصِلُهُ بَذْلُ أَعَزِّ الْمَحْبُوبَاتِ وَإِدْخَالِ أَعْظَمِ الْمَشَقَّاتِ عَلَيْهِ وَهُوَ نَفْسُ الْإِنْسَانِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقَرُّبًا بِذَلِكَ إلَيْهِ ﷾، وَأَشَقُّ مِنْهُ قَصْرُ النَّفْسِ عَلَى الطَّاعَاتِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ عَلَى الدَّوَامِ وَمُجَانَبَةِ أَهَوِيَتِهَا، وَلِذَا «قَالَ ﵊ وَقَدْ رَجَعَ مِنْ مَغْزَاةٍ رَجَعْنَا مِنْ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ» وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّهُ ﵊ أَخَّرَهُ فِي الْفَضِيلَةِ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى وَقْتِهَا فِي حَدِيثِ «ابْنِ مَسْعُودٍ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الصَّلَاةُ عَلَى مِيقَاتِهَا، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَوْ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَدْ جَاءَ أَنَّهُ ﷺ جَعَلَهُ أَفْضَلَ بَعْدَ الْإِيمَانِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إيمَانٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَهَذِهِ وَإِنْ كَانَتْ صُورَةً مُعَارِضَةً لَكِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ كُلٍّ عَلَى مَا يَلِيقُ بِحَالِ السَّائِلِ، فَإِذَا كَانَ السَّائِلُ يَلِيقُ بِهِ الْجِهَادُ لِمَا عَلِمَهُ مِنْ تَهْيِئَتِهِ لَهُ وَاسْتِعْدَادِهِ زِيَادَةً عَلَى غَيْرِهِ كَانَ الْجِهَادُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ أَفْضَلَ مِمَّنْ لَيْسَ مِثْلَهُ فِي الْجَلَادَةِ وَالْغَنَاءِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا وَتِلْكَ هِيَ الْفَرَائِضُ، وَفِي هَذَا لَا يُتَرَدَّدُ فِي أَنَّ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى أَدَاءِ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ وَأَخْذَ النَّفْسِ بِهَا فِي أَوْقَاتِهَا عَلَى مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ الصَّلَاةُ عَلَى مِيقَاتِهَا أَفْضَلُ مِنْ الْجِهَادِ. وَلِأَنَّ هَذِهِ فَرْضُ عَيْنٍ وَتَتَكَرَّرُ وَالْجِهَادُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلِأَنَّ افْتِرَاضَ الْجِهَادِ لَيْسَ إلَّا لِلْإِيمَانِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ فَكَانَ مَقْصُودًا وَحَسَنًا لِغَيْرِهِ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ حَسَنَةٌ لِعَيْنِهَا وَهِيَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ ﵊ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ، وَفِيهِ طُولٌ إلَى أَنْ قَالَ «وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا شَحَبَ وَجْهٌ وَلَا اغْبَرَّتْ قَدَمٌ فِي عَمَلٍ يُبْتَغَى بِهِ دَرَجَاتُ الْآخِرَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ كَجِهَادٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَإِذْ لَا شَكَّ فِي هَذَا عِنْدَنَا وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ كُلٌّ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مُرَادَةً بِلَفْظِ الْإِيمَانِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَيَكُونُ مِنْ عُمُومِ الْمَجَازِ أَوْ يُرَجَّحُ بِزِيَادَةِ فِقْهِ الرَّاوِي وَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ ﵁ وَبِمَا عَضَّدَهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ.
وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مُعَارَضَةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الصَّلَاةَ فِيهِ أَصْلًا، فَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ جَهْلُ الْجِهَادِ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَهُوَ يَصْدُقُ إذَا كَانَ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَهِيَ قَبْلَهُ بَعْدَ الْإِيمَانِ فَلَا مُعَارَضَةَ إلَّا إذَا نَظَرْنَا إلَى الْمَقْصُودِ.
وَمِنْ الْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ مَا عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ﵁ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ «مُقَامُ الرَّجُلِ فِي الصَّفِّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ عِبَادَةِ الرَّجُلِ سِتِّينَ سَنَةً» رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يَعْدِلُ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا تَسْتَطِيعُونَهُ، فَأَعَادُوا عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ لَا تَسْتَطِيعُونَهُ، ثُمَّ قَالَ: مَثَلُ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمِثْلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَفْتُرُ عَنْ صَلَاتِهِ وَلَا صِيَامِهِ حَتَّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute