وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَمْلِكُونَهَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ مَحْظُورٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً وَالْمَحْظُورُ لَا يَنْتَهِضُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ قَاعِدَةِ الْخَصْمِ.
عِنْدَ مَالِكٍ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِيلَاءِ يَمْلِكُونَهَا. وَلِأَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ كَقَوْلِنَا وَكَقَوْلِ مَالِكٍ: فَيَتَفَرَّعُ عَلَى مِلْكِهِمْ أَمْوَالَنَا بِالْإِحْرَازِ أَنَّ لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَشْتَرِيَ مَا أَخَذُوهُ فَيَأْكُلَهُ وَيَطَأَ الْجَارِيَةَ لِمِلْكِهِمْ كُلَّ ذَلِكَ. (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَمْلِكُونَهَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ) أَيْ اسْتِيلَاءَهُمْ عَلَى أَمْوَالِنَا (مَحْظُورٌ ابْتِدَاءً) عِنْدَ الْأَخْذِ (وَانْتِهَاءً) عِنْدَ صَيْرُورَتِهَا فِي دَارِهِمْ؛ لِبَقَاءِ عِصْمَةِ الْمَالِ لِبَقَاءِ سَبَبِهَا وَهُوَ عِصْمَةُ الْمَالِكِ. قَالَ ﵊ «فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ» وَالْكُفَّارُ مُخَاطَبُونَ بِالْحُرُمَاتِ إجْمَاعًا. (وَالْمَحْظُورُ لَا يَنْتَهِضُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ قَاعِدَتِهِ) فَصَارَ كَاسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِ وَكَاسْتِيلَائِهِمْ عَلَى رِقَابِنَا؛ وَلِأَنَّ النَّصَّ دَلَّ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا رَوَى الطَّحَاوِيُّ مُسْنَدًا إلَى عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ: «كَانَتْ الْعَضْبَاءُ مِنْ سَوَابِقِ الْحَاجِّ، فَأَغَارَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى سَرْحِ الْمَدِينَةِ وَفِيهِ الْعَضْبَاءُ وَأَسَرُوا امْرَأَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانُوا إذَا نَزَلُوا يُرِيحُونَ إبِلَهُمْ فِي أَفْنِيَتِهِمْ، فَلَمَّا كَانَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ قَامَتْ الْمَرْأَةُ وَقَدْ نَامُوا فَجَعَلَتْ لَا تَضَعُ يَدَهَا عَلَى بَعِيرٍ إلَّا رَغَا حَتَّى أَتَتْ عَلَى الْعَضْبَاءِ، فَأَتَتْ عَلَى نَاقَةٍ ذَلُولٍ فَرَكِبَتْهَا ثُمَّ وَجَّهَتْ قِبَلَ الْمَدِينَةِ وَنَذَرَتْ لَئِنْ اللَّهُ ﷿ نَجَّاهَا عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، فَلَمَّا قَدِمَتْ عَرَفَتْ النَّاقَةَ، فَأَتَوْا بِهَا إلَى النَّبِيِّ ﷺ فَأَخْبَرَتْهُ الْمَرْأَةُ بِنَذْرِهَا، فَقَالَ: بِئْسَ مَا جَزَيْتِيهَا أَوْ وَفَّيْتِيهَا لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ». وَفِي لَفْظٍ: فَأَخَذَ نَاقَتَهُ. وَلَوْ كَانَ الْكُفَّارُ يَمْلِكُونَ بِالْإِحْرَازِ لَمَلَكَتْهَا الْمَرْأَةُ لِإِحْرَازِهِمْ إيَّاهَا. وَلِلْجُمْهُورِ أَوْجُهٌ مِنْ النَّقْلِ وَالْمَعْنَى، فَالْأَوَّلُ قَوْله تَعَالَى ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ﴾ سَمَّاهُمْ فُقَرَاءَ، وَالْفَقِيرُ مَنْ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مَلَكُوا أَمْوَالَهُمْ الَّتِي خَلَّفُوهَا وَهَاجَرُوا عَنْهَا، وَلَيْسَ مَنْ مَلَكَ مَالًا وَهُوَ فِي مَكَان لَا يَصِلُ إلَيْهِ فَقِيرًا بَلْ هُوَ مَخْصُوصٌ بِابْنِ السَّبِيلِ وَلِذَا عُطِفُوا عَلَيْهِمْ فِي نَصِّ الصَّدَقَةِ.
وَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّارِحُونَ مِمَّا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ «قِيلَ لَهُ ﵊ فِي الْفَتْحِ أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا بِمَكَّةَ؟ فَقَالَ: وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ مَنْزِلٍ. وَرُوِيَ أَتَنْزِلُ غَدًا بِدَارِك؟ فَقَالَ: وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ»، وَإِنَّمَا قَالَهُ؛ لِأَنَّ عَقِيلًا كَانَ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ وَهُوَ عَلَى كُفْرِهِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ إنَّمَا هُوَ دَلِيلُ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَرِثُ الْكَافِرَ، فَإِنَّ عَقِيلًا إنَّمَا اسْتَوْلَى عَلَى الرِّبَاعِ بِإِرْثِهِ إيَّاهَا مِنْ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ عَلِيًّا وَجَعْفَرًا مُسْلِمَيْنِ وَعَقِيلًا وَطَالِبًا كَافِرَيْنِ فَوَرِثَاهُ، لَا أَنَّ الدِّيَارَ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَلَمَّا هَاجَرَ اسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا فَمَلَكُوهَا بِالِاسْتِيلَاءِ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْ تَمِيمِ بْنِ طَرَفَةَ قَالَ: «وَجَدَ رَجُلٌ مَعَ رَجُلٍ نَاقَةً لَهُ، فَارْتَفَعَا إلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ، وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ الْعَدُوِّ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: إنْ شِئْت أَنْ تَأْخُذَ بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ فَأَنْتَ أَحَقُّ، وَإِلَّا فَخَلِّ عَنْ نَاقَتِهِ» وَالْمُرْسَلُ حُجَّةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مُسْنِدًا عَنْ تَمِيمِ بْنِ طَرَفَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ. وَفِي سَنَدِهِ يَاسِينُ الزَّيَّاتُ مُضَعَّفٌ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّهُ ﵊ قَالَ فِيمَا أَحْرَزَهُ الْعَدُوُّ فَاسْتَنْقَذَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ: إنْ وَجَدَهُ صَاحِبُهُ قَبْلَ أَنْ يُقَسَّمَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ وَجَدَهُ قَدْ قُسِّمَ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ» وَضُعِّفَ بِالْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ «مَنْ وَجَدَ مَالَهُ فِي الْفَيْءِ قَبْلَ أَنْ يُقَسَّمَ فَهُوَ لَهُ، وَمَنْ وَجَدَهُ بَعْدَمَا قُسِّمَ فَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ»
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute