وَلِأَنَّ الْمُؤَنَ مُتَفَاوِتَةٌ فَالْكَرْمُ أَخَفُّهَا مُؤْنَةً وَالْمَزَارِعَ أَكْثَرُهَا مُؤْنَةً وَالرُّطَبُ بَيْنَهُمَا، وَالْوَظِيفَةُ تَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِهَا فَجُعِلَ الْوَاجِبُ فِي الْكَرْمِ أَعْلَاهَا وَفِي الزَّرْعِ أَدْنَاهَا وَفِي الرُّطَبَةِ أَوْسَطَهَا.
وُضِعَ عَلَى الْجِرْبَانِ الْمَقَادِيرَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَلَا سَهْوَ يُنْسَبُ إلَى قَائِلِ هَذَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ بِهِ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّ الشَّعْبِيَّ لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ ﵁. وَاعْلَمْ أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ عُمَرَ اخْتَلَفَتْ كَثِيرًا فِي تَقْدِيرِ الْوَظِيفَةِ، فَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ أَبِي عَوْنٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: وَضَعَ عُمَرُ ﵁ عَلَى أَهْلِ السَّوَادِ عَلَى كُلِّ جَرِيبِ أَرْضٍ يَبْلُغُهُ الْمَاءُ عَامِرٍ أَوْ غَامِرٍ دِرْهَمًا وَقَفِيزًا مِنْ طَعَامٍ، وَعَلَى الْبَسَاتِينِ عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَخَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ مِنْ طَعَامٍ، وَعَلَى الرِّطَابِ عَلَى كُلِّ جَرِيبِ أَرْضٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَخَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ مِنْ طَعَامٍ، وَعَلَى الْكُرُومِ عَلَى كُلِّ جَرِيبِ أَرْضٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَعَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ، وَلَمْ يَضَعْ عَلَى النَّخِيلِ شَيْئًا جَعَلَهُ تَبَعًا لِلْأَرْضِ.
ثُمَّ حَدَّثَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: بَعَثَ عُمَرُ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ عَلَى مِسَاحَةِ الْأَرْضِ فَوَضَعَ عُثْمَانُ عَلَى الْجَرِيبِ مِنْ الْكَرْمِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى جَرِيبِ النَّخْلِ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى جَرِيبِ الْقَصَبِ سِتَّةَ دَرَاهِمَ: يَعْنِي الرَّطْبَةَ، وَعَلَى جَرِيبِ الْبُرِّ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى جَرِيبِ الشَّعِيرِ دِرْهَمَيْنِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ: حَدَّثَنَا هُشَيْمُ بْنُ بَشِيرٍ: أَنْبَأْنَا الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ قَالَ: لَمَّا افْتَتَحَ الْمُسْلِمُونَ فَسَاقَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ إلَى أَنْ قَالَ: فَمَسَحَ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ سَوَادَ الْكُوفَةِ مِنْ أَرْضِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَجَعَلَ عَلَى جَرِيبِ النَّخْلِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى جَرِيبِ الْعِنَبِ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى جَرِيبِ الْقَصَبِ سِتَّةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى الْجَرِيبِ مِنْ الْبُرِّ أَرْبَعَةً، وَعَلَى الْجَرِيبِ مِنْ الشَّعِيرِ دِرْهَمَيْنِ، وَفِيهِ قَالَ: فَأَخَذَ مِنْ تُجَّارِهِمْ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا، فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ﵁ فَرَضِيَ بِهِ، فَقَدْ رَأَيْت مَا هُنَا مِنْ الِاخْتِلَافِ. وَمَالِكٌ ﵀ يَعْتَبِرُ إجَارَةَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهَا وَقْفٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عِنْدَهُ فَتُفَوَّضُ إلَى إجَارَتِهِ كَمَا هُوَ الرَّسْمُ الْآنَ فِي أَرَاضِي مِصْرَ، فَإِنَّ الْمَأْخُوذَ الْآنَ بَدَلُ إجَارَةٍ لَا خَرَاجٍ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَرَاضِيَ لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً لِلزُّرَّاعِ، وَهَذَا بَعْدَمَا قُلْنَا إنَّ أَرْضَ مِصْرَ خَرَاجِيَّةٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، كَأَنَّهُ لِمَوْتِ الْمَالِكِينَ شَيْئًا فَشَيْئًا مِنْ غَيْرِ إخْلَافِ وَرَثَةٍ فَصَارَتْ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَنْ لَا يَصِحَّ بَيْعُ الْإِمَامِ وَلَا شِرَاؤُهُ مِنْ وَكِيلِ بَيْتِ الْمَالِ لِشَيْءٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّ نَظَرَهُ فِي مَالِ الْمُسْلِمِينَ كَنَظَرِ وَلِيِّ الْيَتِيمِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ عَقَارِهِ إلَّا لِضَرُورَةِ عَدَمِ وُجُودِ مَا يُنْفِقُهُ سِوَاهُ، فَلِذَا كَتَبْت فِي فَتْوَى رُفِعَتْ إلَيَّ فِي شِرَاءِ السُّلْطَانِ الْأَشْرَفِ بَرْسَبَاي ﵀ لِأَرْضٍ مِمَّنْ وَلَّاهُ نَظَرَ بَيْتِ الْمَالِ هَلْ يَجُوزُ شِرَاؤُهُ مِنْهُ وَهُوَ الَّذِي وَلَّاهُ؟ فَكَتَبْت: إذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ جَازَ ذَلِكَ. وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ كَمَالِكٍ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي جَرِيبِ حِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ دِرْهَمٌ، وَالْبَاقِي كَقَوْلِنَا. وَقِيلَ كُلُّ الرِّوَايَاتِ عَنْ عُمَرَ صَحِيحَةٌ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ لِاخْتِلَافِ النَّوَاحِي فَوُضِعَ بَعْضُهَا أَقَلَّ وَبَعْضُهَا أَكْثَرَ؛ لِتَفَاوُتِ الرِّيعِ فِي نَاحِيَةٍ مَعَ نَاحِيَةٍ، وَمَا قُلْنَا أَشْهَرُ رِوَايَةً، وَأَرْفَقُ بِالرَّعِيَّةِ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الْمَعْنَى فِي اخْتِلَافِ الْوَظِيفَةِ فَقَالَ: (وَلِأَنَّ الْمُؤَنَ مُتَفَاوِتَةٌ فَالْكَرْمُ أَخَفُّهَا مُؤْنَةً)؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى عَلَى الْأَبَدِ بِلَا مُؤْنَةٍ، وَأَكْثَرُهَا رِيعًا (وَالْمَزَارِعُ) أَقَلُّهَا رِيعًا وَ (أَكْثَرُهَا مُؤْنَةً) لِاحْتِيَاجِهَا إلَى الْبَذْرِ وَمُؤَنِ الزِّرَاعَةِ مِنْ الْحِرَاثَةِ وَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ وَالتَّذْرِيَةِ فِي كُلِّ عَامٍ (وَالرِّطَابُ بَيْنَهُمَا)؛ لِأَنَّهَا لَا تَدُومُ دَوَامَ الْكَرْمِ وَيَتَكَلَّفُ فِي عَمَلِهَا كُلَّ عَامٍ فَوَجَبَ تَفَاوُتُ الْوَاجِبِ بِتَفَاوُتِ الْمُؤْنَةِ، أَصْلُهُ قَوْلُهُ: ﵊ «مَا سَقَتْ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِغَرْبٍ أَوْ دَالِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ»
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute