للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِالصِّفَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَيُمْنَعُونَ مِنْ لِبَاسٍ يَخْتَصُّ بِهِ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَالشَّرَفِ.

(وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ الْجِزْيَةِ أَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا أَوْ سَبَّ النَّبِيَّ أَوْ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ لَمْ يُنْتَقَضْ عَهْدُهُ) لِأَنَّ الْغَايَةَ الَّتِي يَنْتَهِي بِهَا الْقِتَالُ الْتِزَامُ الْجِزْيَةِ لَا أَدَاؤُهَا وَالِالْتِزَامُ بَاقٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: سَبُّ النَّبِيِّ يَكُونُ نَقْضًا؛ لِأَنَّهُ يَنْقُضُ إيمَانَهُ فَكَذَا يَنْقُضُ أَمَانَهُ إذْ عَقْدُ الذِّمَّةِ خَلَفٌ عَنْهُ.

وَلَنَا أَنَّ سَبَّ النَّبِيِّ كُفْرٌ مِنْهُ، وَالْكُفْرُ الْمُقَارِنُ لَا يَمْنَعُهُ فَالطَّارِئُ لَا يَرْفَعُهُ.

عَنْ دُورِ الْمُسْلِمِينَ كَيْ لَا يَقِفَ سَائِلٌ فَيَدْعُوَ لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ أَوْ يُعَامِلَهُمْ بِالتَّضَرُّعِ كَمَا يَتَضَرَّعُ لِلْمُسْلِمِينَ (وَيُمْنَعُونَ مِنْ لِبَاسٍ يَخُصُّ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَالشَّرَفِ) وَتُجْعَلُ مَكَاعِبُهُمْ خَشِنَةً فَاسِدَةَ اللَّوْنِ، وَلَا يَلْبَسُوا طَيَالِسَةً كَطَيَالِسَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا أَرِدْيَةً كَأَرْدِيَتِهِمْ، هَكَذَا أُمِرُوا وَاتَّفَقَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى ذَلِكَ.

(قَوْلُهُ: وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ أَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا أَوْ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ أَوْ سَبَّ النَّبِيَّ لَمْ يُنْتَقَضْ عَهْدُهُ) فَيَصِيرُ مُبَاحَ الدَّمِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا عَهْدَ لَهُ عِنْدَنَا، وَقُيِّدَ بِأَدَائِهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ مِنْ قَبُولِهَا نُقِضَ عَهْدُهُ. وَالشَّافِعِيُّ يَنْقُضُ عَهْدَهُ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ وَقَبُولِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَنْقُضُهُ بِزِنَاهُ بِمُسْلِمَةٍ أَوْ أَنْ يُصِيبَهَا بِنِكَاحٍ أَوْ أَنْ يَفْتِنَ مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ أَوْ يَقْطَعَ الطَّرِيقَ أَوْ يَدُلَّ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ يَقْتُلَ مُسْلِمًا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، إلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ: يُنْتَقَضُ بِإِكْرَاهِ الْمُسْلِمَةِ عَلَى الزِّنَا أَوْ سَبِّهِ أَوْ ذِكْرِهِ تَعَالَى بِمَا لَا يَنْبَغِي فَإِنَّهُ يَقْتُلُهُ بِهِ إنْ لَمْ يُسْلِمْ، وَوَافَقَهُ فِي هَذَا الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَلِلشَّافِعِيِّ أَيْضًا فِيمَا إذَا ذَكَرَهُ تَعَالَى بِمَا لَا يَنْبَغِي أَوْ سَبَّهُ قَوْلَانِ آخَرَانِ: أَحَدُهُمَا لَا يُنْتَقَضُ، وَالْآخَرُ يُنْتَقَضُ.

وَجْهُ قَوْلِهِ هَذَا (أَنَّهُ بِذَلِكَ يُنْتَقَضُ إيمَانُهُ) لَوْ كَانَ مُسْلِمًا (فَيُنْتَقَضُ بِهِ أَمَانُهُ إذْ عَقْدُ الذِّمَّةِ خَلَفٌ عَنْ الْإِيمَانِ) فِي إفَادَةِ الْأَمَانِ فَمَا يَنْقُضُ الْأَصْلَ يَنْقُضُ الْخَلَفَ الْأَدْنَى بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى. وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: سَمِعْت رَاهِبًا سَبَّ النَّبِيَّ ، فَقَالَ: لَوْ سَمِعْته لَقَتَلْته، إنَّا لَمْ نُعْطِهِمْ الْعُهُودَ عَلَى هَذَا. قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَلَنَا أَنَّ سَبَّ النَّبِيِّ كُفْرٌ مِنْ الذِّمِّيِّ) كَمَا هُوَ رِدَّةٌ مِنْ الْمُسْلِمِ (وَالْكُفْرُ الْمُقَارِنُ) لِعَقْدِ الذِّمَّةِ (لَا يَمْنَعُ عَقْدَ الذِّمَّةِ) فِي الِابْتِدَاءِ (فَالْكُفْرُ الطَّارِئُ لَا يَرْفَعُهُ) فِي حَالِ الْبَقَاءِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى، يُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ «عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَهْطًا مِنْ الْيَهُودِ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، فَقَالَ وَعَلَيْكُمْ، قَالَتْ: فَفَهِمْتُهَا وَقُلْت: عَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ مَهْلًا: يَا عَائِشَةُ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ، قَالَتْ: فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ : قَدْ قُلْت وَعَلَيْكُمْ» وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا سَبٌّ مِنْهُمْ لَهُ ، وَلَوْ كَانَ نَقْضًا لِلْعَهْدِ لَقَتَلَهُمْ لِصَيْرُورَتِهِمْ حَرْبِيِّينَ. قَالُوا: وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ قَدْ شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يُظْهِرُوا سَبَّهُ . وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ سَبَّهُ أَوْ نِسْبَةَ مَا لَا يَنْبَغِي إلَى اللَّهِ تَعَالَى إنْ كَانَ مِمَّا لَا يَعْتَقِدُونَهُ كَنِسْبَةِ الْوَلَدِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ عَنْ ذَلِكَ إذَا أَظْهَرَهُ يُقْتَلُ بِهِ وَيُنْتَقَضُ عَهْدُهُ، وَإِنْ لَمْ يُظْهِرْ وَلَكِنْ عُثِرَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَكْتُمُهُ فَلَا.

وَهَذَا؛ لِأَنَّ دَفْعَ الْقَتْلِ وَالْقِتَالِ عَنْهُمْ بِقَبُولِ الْجِزْيَةِ الَّذِي هُوَ الْمُرَادُ بِالْإِعْطَاءِ مُقَيَّدٌ بِكَوْنِهِمْ صَاغِرِينَ أَذِلَّاءَ بِالنَّصِّ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرَادَ اسْتِمْرَارُ ذَلِكَ لَا عِنْدَ مُجَرَّدِ الْقَبُولِ وَإِظْهَارُ ذَلِكَ مِنْهُ يُنَافِي قَيْدَ قَبُولِ الْجِزْيَةِ دَافِعًا لِقَتْلِهِ؛ لِأَنَّهُ الْغَايَةُ فِي التَّمَرُّدِ وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِالْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ فَلَا يَكُونُ جَارِيًا عَلَى الْعَقْدِ الَّذِي يَدْفَعُ عَنْهُ الْقَتْلَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ صَاغِرًا ذَلِيلًا. وَأَمَّا الْيَهُودُ الْمَذْكُورُونَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فَلَمْ يَكُونُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ بِمَعْنَى إعْطَائِهِمْ الْجِزْيَةَ، بَلْ كَانُوا أَصْحَابَ مُوَادَعَةٍ بِلَا مَالٍ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ دَفْعًا لِشَرِّهِمْ إلَى أَنْ أَمْكَنَ اللَّهُ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُوضَعْ جِزْيَةٌ قَطُّ عَلَى الْيَهُودِ الْمُجَاوِرِينَ مِنْ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ. وَهَذَا الْبَحْثُ مِنَّا يُوجِبُ أَنَّهُ إذَا اسْتَعْلَى عَلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>