وَلَوْ اشْتَرَاهَا مُطْلَقًا فَأَثْمَرَتْ ثَمَرًا آخَرَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَسَدَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمٌ فَالْقِوَامُ لِتَعَذُّرِ التَّمْيِيزِ.
وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ، وَعَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: الْحَدِيثُ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إلَّا مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ. رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَلَنَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ ﵊ «مَنْ اشْتَرَى نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ» فَجَعَلَهُ لِلْمُشْتَرِي بِالشَّرْطِ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقَيِّدْ دُخُولَهُ فِي الْبَيْعِ عِنْدَ اشْتِرَاطِ الْمُبْتَاعِ بِكَوْنِهِ بَدَا صَلَاحُهُ. وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَتْ «ابْتَاعَ رَجُلٌ ثَمَرَةَ حَائِطٍ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ فَعَالَجَهُ وَقَامَ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُ النُّقْصَانُ، فَسَأَلَ رَبَّ الْحَائِطِ أَنْ يَضَعَ لَهُ أَوْ يُقِيلَهُ، فَحَلَفَ لَا يَفْعَلُ فَذَهَبْت بِالْمُشْتَرِي إلَى النَّبِيِّ ﷺ فَذَكَرْت لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: يَأْبَى أَنْ لَا يَفْعَلَ خَيْرًا، فَسَمِعَ بِذَلِكَ رَبُّ الْحَائِطِ فَأَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: هُوَ لَهُ» وَلَوْلَا صِحَّةُ الْبَيْعِ لَمْ تَتَرَتَّبْ الْإِقَالَةُ عَلَيْهِ. أَمَّا النَّهْيُ الْمَذْكُورُ فَهُوَ قَدْ تَرَكُوا ظَاهِرَهُ، فَإِنَّهُمْ أَجَازُوا الْبَيْعَ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ، وَهَذِهِ مُعَارَضَةٌ صَرِيحَةٌ لِمَنْطُوقِهِ، فَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ، وَهُوَ لَا يَحِلُّ إنْ لَمْ يَكُنْ لِمُوجِبٍ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ تَعْلِيلُهُ ﵊ بِقَوْلِهِ ﷺ «أَرَأَيْت إنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ» فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِهَا مُدْرَكَةً، قَبْلَ الْإِدْرَاكِ وَمُزْهِيَةً قَبْلَ الزَّهْوِ. وَقَدْ فَسَّرَ أَنَسٌ ﵁ زَهْوَهَا بِأَنْ تَحْمَرَّ أَوْ تَصْفَرَّ، وَفَسَّرَهَا ابْنُ عُمَرَ بِأَنْ تَأْمَنَ الْعَاهَةَ، فَكَانَ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِهَا مُحْمَرَّةً قَبْلَ الِاحْمِرَارِ وَمُصْفَرَّةً قَبْلَ الِاصْفِرَارِ أَوْ آمِنَةً مِنْ الْعَاهَةِ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَنَ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ النَّاسَ يَبِيعُونَ الثَّمَرَةَ قَبْلَ أَنْ تُقْطَعَ، فَنَهَى عَنْ هَذَا الْبَيْعِ قَبْلَ أَنْ تُوجَدَ الصِّفَةُ الْمَذْكُورَةُ وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ نَهْيِهِ ﵊ عَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ وَهُوَ لَا يَكُونُ عِنَبًا قَبْلَ السَّوَادِ يُفِيدُهُ فَإِنَّهُ قَبْلَهُ حِصْرِمٌ، فَكَانَ مَعْنَاهُ عَلَى الْقَطْعِ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ عِنَبًا قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ عِنَبًا، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِشَرْطِ التَّرْكِ إلَى أَنْ يَبْدُوَ الصَّلَاحُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَعْلِيلُ النَّبِيِّ ﷺ بِقَوْلِهِ «أَرَأَيْت لَوْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ» فَالْمَعْنَى إذَا بِعْتُمُوهُ عِنَبًا قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ عِنَبًا بِشَرْطِ التَّرْكِ إلَى أَنْ يَصِيرَ عِنَبًا فَمَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ فَلَمْ يَصِرْ عِنَبًا بِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ يَعْنِي الْبَائِعُ مَالَ أَخِيهِ الْمُشْتَرِي، وَالْبَيْعُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ لَا يُتَوَهَّمُ فِيهِ ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ مُتَنَاوِلًا لِلنَّهْيِ، وَإِذَا صَارَ مَحَلُّ النَّهْيِ بَيْعَهَا بِشَرْطِ تَرْكِهَا إلَى أَنْ تَصْلُحَ فَقَدْ قَضَيْنَا عُهْدَةَ هَذَا النَّهْيِ، فَإِنَّا قَدْ أَفْسَدْنَا هَذَا الْبَيْعَ وَبَقِيَ بَيْعُهَا مُطْلَقًا غَيْرَ مُتَنَاوِلٍ لِلنَّهْيِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، فَلِهَذَا تَرَكَ الْمُصَنِّفُ الِاسْتِدْلَالَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْخِلَافِيَّةِ بِالْحَدِيثِ، وَحِينَئِذٍ فَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ لَنَا فِيهَا: أَعْنِي حَدِيثَ التَّأْبِيرِ سَالِمٌ عَنْ الْمُعَارِضِ، وَكَذَلِكَ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّهُ مَبِيعٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ فِي الْحَالِ أَوْ فِي الثَّانِي إلَى آخِرِهِ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ ظَهَرَ أَنَّ لَيْسَ حَدِيثُ التَّأْبِيرِ عَامًّا عَارَضَهُ خَاصٌّ وَهُوَ حَدِيثُ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، وَأَنَّ التَّرْجِيحَ هُنَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْخَاصِّ؛ لِأَنَّهُ مَانِعٌ وَحَدِيثُنَا مُبِيحٌ بَلْ لَا يَتَنَاوَلُ أَحَدُهُمَا مَا يَتَنَاوَلُ الْآخَرُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ بَيْعَ مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا إمَّا بِشَرْطِ الْقَطْعِ، وَهُوَ جَائِزٌ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَنَاوِلٍ لِلنَّهْيِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِمَّا مُطْلَقًا فَإِذَا كَانَ حُكْمُهُ لُزُومُ الْقَطْعِ كَانَ بِمِثْلِهِ بِشَرْطِ الْقَطْعِ فَلَمْ يَبْقَ مَحَلُّ النَّهْيِ إلَّا بَيْعُهَا بِشَرْطِ التَّرْكِ، وَنَحْنُ قَائِلُونَ بِأَنَّهُ فَاسِدٌ.
(وَلَوْ اشْتَرَاهَا مُطْلَقًا فَأَثْمَرَتْ ثَمَرًا آخَرَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَسَدَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ لِتَعَذُّرِ التَّمْيِيزِ) فَأَشْبَهَ هَلَاكَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute