للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَالْمَعْدُومُ قَدْ يُعْتَبَرُ مَوْجُودًا حُكْمًا، وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْعَيْنُ دُونَ الْعَمَلِ، حَتَّى لَوْ جَاءَ بِهِ مَفْرُوغًا لَا مِنْ صَنْعَتِهِ أَوْ مِنْ صَنْعَتِهِ قَبْلَ الْعَقْدِ فَأَخَذَهُ جَازَ،

كَمَا لَوْ قَالَ احْمِلْ طَعَامَكَ مِنْ هَذَا الْمَكَانِ إلَى مَكَانِ كَذَا بِكَذَا، أَوْ اُصْبُغْ ثَوْبَك أَحْمَرَ بِكَذَا لَا يَصِحُّ وَلَا بَيْعًا لِأَنَّهُ بَيْعٌ مَعْدُومٌ، وَلَوْ كَانَ مَوْجُودًا مَمْلُوكًا لِغَيْرِ الْعَاقِدِ لَمْ يَجُزْ، فَإِذَا كَانَ مَعْدُومًا فَهُوَ أَوْلَى بِعَدَمِ الْجَوَازِ، وَلَكِنَّا جَوَّزْنَاهُ اسْتِحْسَانًا لِلتَّعَامُلِ الرَّاجِعِ إلَى الْإِجْمَاعِ الْعَمَلِيِّ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ إلَى الْيَوْمِ بِلَا نَكِيرٍ، وَالتَّعَامُلُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَصْلٌ مُنْدَرِجٌ فِي قَوْلِهِ «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ» «وَقَدْ اسْتَصْنَعَ رَسُولُ اللَّهِ خَاتَمًا. وَاحْتَجَمَ وَأَعْطَى الْحَجَّامَ»

مَعَ أَنَّ مِقْدَارَ عَمَلِ الْحِجَامَةِ وَعَدَدَ كُرَّاتِ وَضْعِ الْمَحَاجِمِ وَمَصَّهَا غَيْرُ لَازِمٍ عِنْدَ أَحَدٍ. وَمِثْلِهِ شُرْبُ الْمَاء مِنْ السِّقَاءِ، وَسَمِعَ بِوُجُودِ الْحَمَّامِ فَأَبَاحَهُ بِمِئْزَرٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُ شَرْطًا. وَتَعَامَلَ النَّاسُ بِدُخُولِهِ مِنْ لَدُنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْآنَ، وَهُوَ أَنْ لَا يَذْكُرَ عَدَدَ مَا يَصُبُّهُ مِنْ مِلْءِ الطَّاسَةِ وَنَحْوِهَا فَقَصَرْنَاهُ عَلَى مَا فِيهِ تَعَامُلٌ، وَفِيمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ رَجَعْنَا فِيهِ إلَى الْقِيَاسِ كَأَنْ يَسْتَصْنِعَ حَائِكًا أَوْ خَيَّاطًا لَيَنْسِجَ لَهُ أَوْ يَخِيطَ قَمِيصًا بِغَزْلِ نَفْسِهِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ أَنَّهُ مُوَاعَدَةٌ أَوْ مُعَاقَدَةٌ، فَالْحَاكِمُ الشَّهِيدُ وَالصَّفَّارُ وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ وَصَاحِبُ الْمَنْثُورِ مُوَاعَدَةٌ، وَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ عِنْدَ الْفَرَاغِ بَيْعًا بِالتَّعَاطِي وَلِهَذَا كَانَ لِلصَّانِعِ أَنْ لَا يَعْمَلَ وَلَا يُجْبَرَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ السَّلَمِ، وَلِلْمُسْتَصْنِعِ أَنْ لَا يَقْبَلَ مَا يَأْتِي بِهِ وَيَرْجِعَ عَنْهُ، وَلَا تَلْزَمُ الْمُعَامَلَةُ وَكَذَا الْمُزَارِعَةُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِفَسَادِهِمَا مَعَ التَّعَامُلِ لِثُبُوتِ الْخِلَافِ فِيهِمَا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا كَانَ عَلَى الِاتِّفَاقِ.

وَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ جَوَازُهُ بَيْعًا لِأَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِيهِ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ وَهُمَا لَا يَجْرِيَانِ فِي الْمُوَاعَدَةِ، وَلِأَنَّهُ جَوَّزَهُ فِيمَا فِيهِ تَعَامُلٌ دُونَ مَا لَيْسَ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ مُوَاعَدَةً جَازَ فِي الْكُلِّ، وَسَمَّاهُ شِرَاءً فَقَالَ: إذَا رَآهُ الْمُسْتَصْنَعُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ، وَلِأَنَّ الصَّانِعَ يَمْلِكُ الدَّرَاهِمَ بِقَبْضِهَا وَلَوْ كَانَتْ مَوَاعِيدُ لَمْ يَمْلِكْهَا وَإِثْبَاتُ أَبِي الْيُسْرِ الْخِيَارَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ بَيْعٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي بَيْعِ الْمُقَايَضَةِ لَوْ لَمْ يَرَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَيْنَ الْآخَرِ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا الْخِيَارُ وَحِينَ لَزِمَ جَوَازُهُ عِلْمنَا أَنَّ الشَّارِعَ اعْتَبَرَ فِيهَا الْمَعْدُومَ مَوْجُودًا وَفِي الشَّرْعِ كَثِيرٌ كَذَلِكَ كَطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ وَتَسْمِيَةِ الذَّابِحِ إذَا نَسِيَهَا وَالرَّهْنِ بِالدَّيْنِ الْمَوْعُودِ وَقِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ. وَقَوْلُهُ (وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْعَيْن دُونَ الْعَمَلِ) نَفْيٌ لِقَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيِّ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ لِأَنَّ الِاسْتِصْنَاعَ يُنَبِّئُ عَنْهُ كَمَا قُلْنَا، وَالْأَدِيمُ وَالصَّرْمُ بِمَنْزِلَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>