إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدُ تَوَثُّقٍ، وَلَنَا أَنَّ الْحَوَالَةَ لِلنَّقْلِ لُغَةٌ، وَمِنْهُ حَوَالَةُ الْغِرَاسِ وَالدَّيْنُ مَتَى انْتَقَلَ عَنْ الذِّمَّةِ لَا يَبْقَى فِيهَا.
أَمَّا الْكَفَالَةُ فَلِلضَّمِّ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى وِفَاقِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ وَالتَّوَثُّقِ بِاخْتِيَارِ الْأَمْلَأِ وَالْأَحْسَنِ فِي الْقَضَاءِ،
بِمَالِ الْمُحْتَالِ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِهِ لِغَيْرِهِ. وَمِنْهَا أَنَّ الْمُحْتَالَ إذَا وَكَّلَ الْمُحِيلُ بِقَبْضِ مَالِ الْحَوَالَةِ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ، وَلَوْ انْتَقَلَ الدَّيْنُ صَارَ الْمُحِيلُ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ، وَتَوْكِيلُ الْأَجْنَبِيِّ بِقَبْضِ الدَّيْنِ صَحِيحٌ.
وَمِنْهَا أَنَّ الْمُحْتَالَ إذَا أَبْرَأَ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ لَا يَرْجِعُ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ عَلَى الْمُحِيلِ، فَلَوْ كَانَتْ الْحَوَالَةُ بِأَمْرِ الْمُحِيلِ وَلَوْ وُهِبَ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُحِيلِ كَمَا فِي الْكَفِيلِ إلَّا إنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُحِيلِ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَإِلَّا الْتَقَيَا قِصَاصًا، وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ يَتَحَوَّلُ إلَى ذِمَّتِهِ كَانَ الْإِبْرَاءُ وَالْهِبَةُ فِي حَقِّهِ سَوَاءٌ فَلَا يَرْجِعُ. وَالْقَائِلُونَ إنَّ الْمَذْهَبَ يَنْتَقِلُ الدَّيْنُ اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْمُحْتَالَ إذَا وُهِبَ الدَّيْنَ مِنْ الْمُحِيلِ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ الدَّيْنِ بَعْدَ الْحَوَالَةِ لَا يَصِحُّ إبْرَاؤُهُ وَهِبَتُهُ، وَلَوْ بَقِيَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ صَحَّ، وَجَعَلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ هَذَا الْخِلَافَ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَنْتَقِلُ الدَّيْنُ وَالْمُطَالَبَةُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَنْتَقِلُ الْمُطَالَبَةُ لَا الدَّيْنُ. قَالَ: وَفَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي مَسْأَلَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا أَنَّ الرَّاهِنَ إذَا حَالَ الْمُرْتَهِنَ بِالدَّيْنِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الرَّهْنَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ كَمَا لَوْ أَبْرَأهُ عَنْهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَسْتَرِدُّهُ كَمَا لَوْ أَجَّلَ الدَّيْنَ بَعْدَ الرَّهْنِ.
وَالثَّانِيَةُ إذَا أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْمُحِيلَ بَعْدَ الْحَوَالَةِ لَا يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ بَرِئَ بِالْحَوَالَةِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِحُّ وَبَرِئَ الْمُحِيلُ لِأَنَّ أَصْلَ الدَّيْنِ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ، وَإِنَّمَا تَحَوَّلَتْ الْمُطَالَبَةُ لَيْسَ غَيْرُ، وَقَدْ أَنْكَرَ هَذَا الْخِلَافَ بَيْنَهُمَا بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ وَقَالَ: لَمْ يُنْقَلْ عَنْ مُحَمَّدٍ نَصٌّ بِنَقْلِ الْمُطَالَبَةِ دُونَ الدَّيْنِ، بَلْ ذَكَرَ أَحْكَامًا مُتَشَابِهَةً وَاعْتَبَرَ الْحَوَالَةَ فِي بَعْضِهَا تَأْجِيلًا وَجَعَلَ الْمُحَوَّلَ بِهَا الْمُطَالَبَةَ لَا الدَّيْنَ، وَاعْتَبَرَهَا فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ إبْرَاءً وَجَعَلَ الْمُحَوَّلَ بِهَا الْمُطَالَبَةَ وَالدَّيْنَ، وَإِنَّمَا فَعَلَ هَكَذَا لِأَنَّ اعْتِبَارَ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ يُوجِبُ نَقْلَ الْمُطَالَبَةِ وَالدَّيْنِ، إذْ الْحَوَالَةُ مُنْبِئَةٌ عَنْ النَّقْلِ وَقَدْ أُضِيفَ إلَى الدَّيْنِ، وَاعْتِبَارُ الْمَعْنَى يُوجِبُ تَحْوِيلَ الْمُطَالَبَةِ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ تَأْجِيلٌ مَعْنًى؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا مَاتَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا يَعُودُ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى التَّأْجِيلِ، فَاعْتَبَرَ الْمَعْنَى فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ وَاعْتَبَرَ الْحَقِيقَةَ فِي بَعْضِهَا، نَعَمْ يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ كَمِّيَّةِ خُصُوصِ الِاعْتِبَارِ فِي كُلِّ مَكَان، وَسَيُجِيبُ الْمُصَنِّفُ عَنْ بَعْضِهَا فِي خِلَافِيَّةِ زُفَرَ هَذِهِ.
إذَا عُرِفَ الْمَذْهَبُ حِينَئِذٍ جِئْنَا إلَى خِلَافِ زُفَرَ لَهُ الِاعْتِبَارُ بِالْكَفَالَةِ بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عَقْدُ تَوَثُّقٍ وَلَمْ يَنْتَقِلْ فِيهَا دَيْنٌ وَلَا مُطَالَبَةٌ بَلْ تَحَقَّقَ فِيهَا اشْتِرَاكٌ فِي الْمُطَالَبَةِ، وَلِأَنَّ عَدَمَ الِانْتِقَالِ أَدُخِلَ فِي مَعْنَى التَّوَثُّقِ إذْ يَصِيرُ لَهُ مُكْنَةُ أَنْ يُطَالِبَ كُلًّا مِنْهُمَا فَكَذَا هَذَا.
(وَلَنَا أَنَّ الْحَوَالَةَ لِلنَّقْلِ لُغَةً وَمِنْهُ حَوَالَةُ الْغِرَاسِ) فَوَجَبَ نَقْلُ الدَّيْنِ (وَالدَّيْنُ إذَا انْتَقَلَ عَنْ الذِّمَّةِ لَا يَبْقَى فِيهَا، أَمَّا الْكَفَالَةُ فَلِلضَّمِّ) لُغَةً لِأَنَّهَا مِنْ الْكِفْلِ وَهُوَ الضَّمُّ فَوَجَبَ فِيهَا اعْتِبَارُ ضَمِّ الذِّمَّةِ إلَى الذِّمَّةِ (لِأَنَّ الْأَحْكَامَ) يَعْنِي الْعُقُودَ (الشَّرْعِيَّةَ) الْمُسَمَّاةَ بِأَسْمَاءٍ تُعْتَبَرُ فِيهَا مَعَانِي تِلْكَ الْأَسْمَاءِ وَهُوَ فَائِدَةُ اخْتِصَاصِهَا بِأَسْمَائِهَا.
(قَوْلُهُ عَقْدُ تَوَثُّقٍ) وَالتَّوَثُّقُ أَنْ يُطَالِبَ كُلًّا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute