للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِمَالٍ فَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِهِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الْمَالَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ) لِأَنَّ التَّسْبِيبَ عَلَى وَجْهِ التَّعَدِّي

وَلَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ إذَا تَصَادَقَا أَنَّ لُزُومَ الْمَالِ عَلَيْهِ كَانَ بِهَذَا الرُّجُوعِ، وَلَوْ أَقَرَّ فِي مَجْلِسِ قَاضٍ أَنَّهُ رَجَعَ عِنْدَ قَاضِي كَذَا صَحَّ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ هَذَا رُجُوعًا عِنْدَ هَذَا الْقَاضِي لَا الَّذِي أَسْنَدَ رُجُوعَهُ إلَيْهِ، وَلَوْ رَجَعَا عِنْدَ الْقَاضِي ثُمَّ جَحَدَ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِمَا وَيَقْضِي بِالضَّمَانِ عَلَيْهِمَا.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ لِاشْتِرَاطِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ فِي صِحَّةِ الرُّجُوعِ وَجْهَيْنِ: أَوَّلُهُمَا أَنَّ الرُّجُوعَ فَسْخٌ لِلشَّهَادَةِ، فَكَمَا اُشْتُرِطَ لِلشَّهَادَةِ الْمَجْلِسُ كَذَلِكَ لِفَسْخِهَا، وَعَلَى الْمُلَازَمَةِ مَنْعٌ ظَاهِرٌ مَعَ إبْدَاءِ الْفَرْقِ بِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْمَجْلِسِ لِيُتَصَوَّرَ الْأَدَاءُ عِنْدَهُ بِالضَّرُورَةِ، بِخِلَافِ الرُّجُوعِ لِأَنَّ حَاصِلَهُ الْإِقْرَارُ عَلَى نَفْسِهِ يَتَحَقَّقُ سَبَبُ الضَّمَانِ مِنْهُ، وَالْإِقْرَارُ بِالضَّمَانِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ.

وَأَجَابَ فِي النِّهَايَةِ بِأَنَّ مَا شُرِطَ لِلِابْتِدَاءِ شُرِطَ لِلْبَقَاءِ كَالْبَيْعِ فَإِنَّهُ شُرِطَ فِيهِ وُجُودُ الْمَبِيعِ فَكَذَا فِي فَسْخِهِ، أَوْ هَذَا أَيْضًا مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ الْمُلَازَمَةِ مَعَ أَنَّ الِاتِّفَاقَ أَنَّ شَرْطَ ذَلِكَ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ إنَّمَا هُوَ لِيَثْبُتَ حُكْمُ الْفَسْخِ وَهُوَ التَّرَادُّ، وَالتَّرَادُّ يَتَوَقَّفُ عَلَى قِيَامِهِ، بِخِلَافِ حُكْمِ الرُّجُوعِ فَإِنَّهُ الضَّمَانُ، وَيُمْكِنُ إثْبَاتُهُ مَعَ ثُبُوتِهِ دُونَ الْمَجْلِسِ. ثُمَّ هُوَ قَدْ أَوْرَدَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ شَرْطَ الِابْتِدَاءِ شَرْطُ الْبَقَاءِ فِي السَّلَمِ حَيْثُ يُشْتَرَطُ لِابْتِدَائِهِ حُضُورُ رَأْسِ الْمَالِ دُونَ فَسْخِهِ. وَأَجَابَ بِمِثْلِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ ذَلِكَ لِأَمْرٍ يَخُصُّ الِابْتِدَاءَ لَا يُوجَدُ فِي الْبَقَاءِ وَهُوَ كَيْ لَا يَلْزَمَ الِافْتِرَاقُ عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ وَذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ فِي فَسْخِهِ فَلِذَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِي فَسْخِهِ مَا شُرِطَ فِي ابْتِدَائِهِ، وَهَذَا نَحْوُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ شَرْطَ الْمَجْلِسِ ابْتِدَاءٌ لِيُتَصَوَّرَ الْأَدَاءُ بِخِلَافِ الْفَسْخِ. ثُمَّ تَمْهِيدُ الْجَوَابِ بِأَنَّ مَا شُرِطَ لِلِابْتِدَاءِ شُرِطَ لِلْبَقَاءِ لَا يُنَاسِبُ مَا نَحْنُ فِيهِ وَهُوَ الرَّفْعُ. نَعَمْ الرَّفْعُ يُرَدُّ عَلَى حَالَةِ بَقَاءِ أَثَرِ الشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحُكْمُ بِهَا، وَلَوْ تَسَهَّلْنَا إلَى جَعْلِ ذَلِكَ بَقَاءَ نَفْسِ الشَّهَادَةِ لَا يُتَصَوَّرُ كَوْنُ مَجْلِسِ الْحُكْمِ شَرْطًا لِبَقَاءِ الشَّهَادَةِ، وَلَوْ أَرْخَيَا الْعَنَانَ فِي الْآخَرِ فَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَشْرُوطُ لِلْبَقَاءِ الْمَجْلِسَ الْأَوَّلَ الَّذِي كَانَ شَرْطًا لِلْأَدَاءِ، وَالْمَجْلِسُ الْمَشْرُوطُ هُنَا مَجْلِسٌ آخَرُ.

وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي وَجْهِهِ أَنَّ الرُّجُوعَ فَسْخٌ وَنَقْضٌ لِلشَّهَادَةِ فَكَانَ مُقَابِلًا لَهَا فَاخْتَصَّ بِمَوْضِعِ الشَّهَادَةِ، وَمَنْعُ الْمُلَازَمَةِ فِيهِ ظَاهِرٌ فَبَيَّنَهُ بِأَنَّ السَّوَادَ وَالْبَيَاضَ لَمَّا كَانَا مُتَضَادَّيْنِ اُشْتُرِطَ لِلتَّضَادِّ اتِّحَادُ الْمَحَلِّ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ اتِّحَادَ الْمَحَلِّ إنَّمَا هُوَ شَرْطُ امْتِنَاعِ اجْتِمَاعِ الْمُتَضَادَّيْنِ لَا شَرْطٌ لِكُلٍّ مِنْ الْمُتَضَادَّيْنِ فِي نَفْسِهِ، كَمَا أَنَّ مَجْلِسَ شَرْطٍ لِكُلٍّ مِنْ الشَّهَادَةِ وَنَقْضِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الرُّجُوعَ تَوْبَةٌ عَنْ ذَنْبِ الْكَذِبِ وَكَانَ ذَلِكَ الذَّنْبُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَتَخْتَصُّ التَّوْبَةُ عَنْهُ بِمَجْلِسِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا غَيْرُ لَازِمٍ فِيهِ فَبَيَّنُوا لَهُ مُلَازَمَةً شَرْعِيَّةً بِحَدِيثِ «مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حِينَ بَعَثَهُ النَّبِيُّ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ أَوْصِنِي، فَقَالَ: عَلَيْك بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى مَا اسْتَطَعْت، إلَى أَنْ قَالَ: وَإِذَا عَمِلْت شَرًّا فَأَحْدِثْ تَوْبَةَ السِّرِّ بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةَ بِالْعَلَانِيَةِ» وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْعَلَانِيَةَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِعْلَانِ فِي مَحَلِّ الذَّنْبِ بِخُصُوصِهِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ بَلْ فِي مِثْلِهِ مِمَّا فِيهِ عَلَانِيَةٌ وَهُوَ إذَا أَظْهَرَ الرُّجُوعَ لِلنَّاسِ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَيْهِ وَبَلَغَ ذَلِكَ الْقَاضِي بِالْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ كَيْ لَا يَكُونَ مُعْلِنًا

(قَوْلُهُ وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِمَالٍ فَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِهِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الْمَالَ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ) وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا مُسَبِّبَانِ وَلَا

<<  <  ج: ص:  >  >>