قَالَ (كُلُّ عَقْدٍ جَازَ أَنْ يَعْقِدَهُ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ جَازَ أَنْ يُوَكِّلَ بِهِ غَيْرَهُ) لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ عَلَى اعْتِبَارِ بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ فَيَكُونَ بِسَبِيلٍ مِنْهُ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ
وَفِي الْمَبْسُوطِ: إذَا وَكَّلَهُ بِكُلِّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ فَهُوَ وَكِيلٌ بِالْحِفْظِ لَا بِتَقَاضِي بَيْعٍ وَلَا شِرَاءٍ، وَفَوَّضْت لَك أَمْرَ مُسْتَغَلَّاتِي وَكَانَ أَجْرُهَا مِلْكَ تَقَاضِي الْأُجْرَةِ وَقَبْضِهَا، وَكَذَا أَمْرَ دُيُونِي مِلْكَ التَّقَاضِي، وَأَمْرَ دَوَابِّي مِلْكَ الْحِفْظِ وَالرَّعْيِ وَالتَّعْلِيفِ، وَأَمْرَ مَمَالِيكِي مِلْكَ الْحِفْظِ وَالنَّفَقَةِ، وَفَوَّضَتْ إلَيْك أَمْرَ امْرَأَتِي مِلْكَ طَلَاقِهَا وَاقْتَصَرَ عَلَى الْمَجْلِسِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ وَكَّلْتُك.
وَالْوِصَايَةُ حَالَةَ الْحَيَاةِ وَكَالَةٌ كَالْوَكَالَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ وِصَايَةٌ لِأَنَّ الْمَنْظُورَ إلَيْهِ الْمَعَانِي. وَكَّلْتُك فِي كُلِّ أُمُورِي وَأَقَمْتُك مَقَامَ نَفْسِي لَيْسَ تَوْكِيلًا عَامًّا، فَإِنْ كَانَ لَهُ صِنَاعَةٌ مَعْلُومَةٌ كَالتِّجَارَةِ مَثَلًا يَنْصَرِفُ إلَى ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ صِنَاعَةٌ مَعْلُومَةٌ وَمُعَامَلَاتُهُ مُخْتَلِفَةٌ فَالْوَكَالَةُ بَاطِلَةٌ وَلَوْ قَالَ وَكَّلْتُك فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ الَّتِي يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِيهَا فَتَوْكِيلٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الْبِيَاعَاتِ وَالْأَنْكِحَةَ. وَأَمَّا شَرْطُهَا فَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ: وَمِنْ شَرْطِ الْوَكَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ وَتَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ.
وَأَمَّا صِفَتُهَا فَإِنَّهَا مِنْ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ غَيْرِ اللَّازِمَةِ حَتَّى مَلَكَ كُلٌّ مِنْ الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ الْعَزْلَ بِلَا رِضَا الْآخَرِ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلِكَوْنِ شَرْعِيَّتِهَا غَيْرَ لَازِمَةٍ رَدَّ الْمُحَقِّقُونَ قَوْلَ بَعْضِ الْمَشَايِخِ فِيمَا لَوْ قَالَ كُلَّمَا عَزَلْتُك فَأَنْتَ وَكِيلٌ لَا يَمْلِكُ عَزْلَهُ لِأَنَّهُ كُلَّمَا عَزَلَهُ تَتَجَدَّدُ وَكَالَتُهُ، فَإِنَّ تَعْلِيقَ الْوَكَالَةِ بِالشَّرْطِ جَائِزٌ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ الْوَكَالَةِ مِنْ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ لَا الْجَائِزَةِ فَالْحَقُّ إمْكَانُ عَزْلِهِ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَحْقِيقِ لَفْظِ الْعَزْلِ؛ فَقِيلَ أَنْ يَكُونَ عَزَلْتُك عَنْ جَمِيعِ الْوَكَالَاتِ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْمُعَلَّقِ وَالْمُنَجَّزِ. وَقِيلَ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْعَزْلَ فَرْعُ قِيَامِ الْوَكَالَةِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمُنَجَّزِ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ عَدَمُ قَبُولِ وُجُودِ الشَّرْطِ، فَالصَّحِيحُ أَنْ يَقُولَ عَزَلْتُك عَنْ الْوَكَالَةِ الْمُنَفَّذَةِ وَرَجَعْت عَنْ الْوَكَالَةِ الْمُعَلَّقَةِ وَالرُّجُوعُ عَنْهَا صَحِيحٌ وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ وَظَهِيرُ الدِّينِ: يَجِبُ أَنْ يُقَدِّمَ الرُّجُوعَ عَنْ الْمُعَلَّقَةِ عَلَى الْعَزْلِ عَنْ الْمُنَفَّذَةِ لِأَنَّهُ إذَا قَدَّمَ الْعَزْلَ عَنْ الْمُنَفَّذَةِ تَتَنَجَّزُ وَكَالَةٌ أُخْرَى مِنْ الْمُعَلَّقَةِ.
وَقِيلَ هَذَا إنَّمَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ لَفْظُ الرُّجُوعِ يَخُصُّ الْمُعَلَّقَةَ احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنَّ الْإِخْرَاجَ عَنْ الْمُعَلَّقَةِ بِلَفْظِ الْعَزْلِ لَا يَصِحُّ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّهُ يَجُوزُ فَلَا وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
وَأَمَّا حُكْمُهَا فَجَوَازُ مُبَاشَرَةِ الْوَكِيلِ مَا وُكِّلَ بِهِ وَثُبُوتُ حُكْمِهِ لِلْمُوَكِّلِ. وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِكَوْنِهِ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ مِنْ الْفِعْلِ الْمُوَكَّلِ بِهِ، وَإِلَّا فَمِنْ أَحْكَامِ الْبَيْعِ التَّمَكُّنُ مِنْ الْمُطَالَبَةِ بِالثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ وَالْخُصُومَةِ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ يَثْبُتُ ذَلِكَ لِلْمُوَكِّلِ
(قَوْلُهُ كُلُّ عَقْدٍ جَازَ أَنْ يَعْقِدَهُ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ جَازَ أَنْ يُوَكِّلَ بِهِ) هَذَا ضَابِطٌ لَا حَدٌّ فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَمْلِكُ بَيْعَ الْخَمْرِ وَيَمْلِكُ تَوْكِيلَ الذِّمِّيِّ بِهِ لِأَنَّ إبْطَالَ الْقَوَاعِدِ بِإِبْطَالِ الطَّرْدِ لَا الْعَكْسَ، وَلَا يُبْطِلُ طَرْدُهُ عَدَمَ تَوْكِيلِ الذِّمِّيِّ مُسْلِمًا بِبَيْعِ خَمْرِهِ، وَهُوَ يَمْلِكُهُ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ التَّوَصُّلَ بِهِ بِتَوْكِيلِ الذِّمِّيِّ، فَصَدَقَ الضَّابِطُ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ كُلُّ عَقْدٍ يَمْلِكُهُ يَمْلِكُ تَوْكِيلَ كُلِّ أَحَدٍ بِهِ بَلْ التَّوَصُّلُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنَّمَا يَرُدُّ عَلَيْهِ تَوْكِيلَهُ الْوَكِيلُ الَّذِي لَمْ يُفَوِّضْ إلَيْهِ التَّصَرُّفَ مُطْلَقًا فَإِنَّهُ يَمْلِكُ الْعَقْدَ الَّذِي وُكِّلَ بِهِ وَلَا يَمْلِكُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute