دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَهُوَ تَدَاخُلٌ فِي السَّبَبِ دُونَ الْحُكْمِ، وَهَذَا أَلْيَقُ بِالْعِبَادَاتِ
وَالْمُحْتَاجُ إلَيْهِ هُنَا بَيَانُ أَنَّ الْأَلْيَقَ فِي الْعِبَادَاتِ عِنْدَ ثُبُوتِ التَّدَاخُلِ كَوْنُهُ فِي السَّبَبِ وَبَيَانُ وَجْهِ ثُبُوتِهِ، وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ. أَمَّا الثَّانِي فَبِالنَّصِّ، وَهُوَ أَنَّهُ ﷺ كَانَ يَسْمَعُ مِنْ جِبْرِيلَ آيَةَ السَّجْدَةِ وَيَقْرَؤُهَا عَلَى أَصْحَابِهِ وَلَا يَسْجُدُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً مَعَ أَنَّهُ ﷺ كَانَ يُكَرِّرُ حَدِيثَهُ ثَلَاثًا لِيُعْقَلَ عَنْهُ، فَكَيْفَ بِالْقُرْآنِ وَبِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ السَّمِيعَ إذَا قَرَأَهَا لَا تَجِبُ إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ وَقَدْ تَحَقَّقَ فِي حَقِّهِ التِّلَاوَةُ وَالسَّمَاعُ وَكُلٌّ سَبَبٌ عَلَى حِدَتِهِ حَتَّى يَجِبَ بِالسَّمَاعِ وَحْدَهُ وَبِالتِّلَاوَةِ وَحْدَهَا إذَا كَانَ التَّالِي أَصَمَّ.
وَالْمَعْقُولُ وَهُوَ أَنَّ تَكْرَارَ الْقِرَاءَةِ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِلْحِفْظِ وَالتَّعْلِيمِ وَالِاعْتِبَارِ، فَلَوْ تَكَرَّرَ الْوُجُوبُ لَحَرَجَ النَّاسَ زِيَادَةَ حَرَجٍ، فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَحْفَظُ مِنْ عَشْرِ مَرَّاتٍ بَلْ أَكْثَرَ فَيَلْزَمُ الْحَرَجُ مِنْ جِهَةِ إلْزَامِ الْحُكْمِ كَذَلِكَ، وَفِي حِفْظِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ كَانَ يَتَعَذَّرُ أَوْ يَتَعَسَّرُ جِدًّا، وَهُوَ مَدْفُوعٌ بِالنَّصِّ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِالتَّدَاخُلِ، وَلَمَّا كَانَ مُثِيرُ ذَلِكَ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ هُوَ الْحَرَجُ اللَّازِمُ بِتَقْدِيرِ إيجَابِ التَّكْرَارِ اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَى التَّمَسُّكِ بِهِ. وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَاعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي التَّدَاخُلِ كَوْنُهُ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ ثَبَتَ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ إذْ الْأَصْلُ أَنَّ لِكُلِّ سَبَبٍ حُكْمًا فَيَلِيقُ بِالْأَحْكَامِ لَا بِالْأَسْبَابِ؛ لِثُبُوتِ الْأَسْبَابِ حِسًّا بِخِلَافِ الْأَحْكَامِ، وَاعْتِبَارُ الثَّابِتِ حِسًّا غَيْرَ ثَابِتٍ أَبْعَدُ مِنْ اعْتِبَارِهِ كَذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمَحْسُوسِ، لَكِنَّا لَوْ قُلْنَا بِهِ فِي الْحُكْمِ فِي الْعِبَادَاتِ لَبَطَلَ التَّدَاخُلُ؛ لِأَنَّهُ بِالنَّظَرِ إلَى الْأَسْبَابِ يَتَعَدَّدُ، وَبِالنَّظَرِ إلَى الْحُكْمِ يَتَّحِدُ فَيَتَعَدَّدُ؛ لِأَنَّهُ إذَا دَارَتْ بَيْنَ الثُّبُوتِ وَالسُّقُوطِ ثَبَتَتْ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى التَّكْثِيرِ؛ لِأَنَّا خُلِقْنَا لَهَا، بِخِلَافِ الْعُقُوبَاتِ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى الدَّرْءِ وَالْعَفْوِ حَتَّى إذَا دَارَتْ كَذَلِكَ سَقَطَتْ، وَلِأَنَّ الْمُتَحَقَّقَ تَأْثِيرُ الْمَجْلِسِ فِي جَمِيعِ الْأَسْبَابِ لَا الْأَحْكَامِ عَلَى مَا فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا التَّدَاخُلُ تَقْيِيدٌ بِالْمَجْلِسِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ فِي السَّبَبِ.
وَفَائِدَتُهُ تَظْهَرُ فِيمَا لَوْ زَنَى فَحُدَّ ثُمَّ زَنَى يُحَدُّ ثَانِيًا، وَلَوْ تَلَا فَسَجَدَ ثُمَّ تَلَا لَا يَجِبُ السُّجُودُ ثَانِيًا. (قَوْلُهُ: وَهُوَ) أَيْ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ هُوَ الْمُبْطِلُ هُنَاكَ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ خُيِّرَتْ قَائِمَةً فَقَعَدَتْ لَا يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا. فَلَوْ كَانَ اخْتِلَافُ الْمَجْلِسِ يَحْصُلُ بِالْقِيَامِ خَرَجَ إذْ لَا فَرْقَ، فَعُلِمَ أَنَّ خُرُوجَهُ فِي الْقِيَامِ لِلْإِعْرَاضِ لَا لِلْقِيَامِ، وَلَيْسَ فِي الْقُعُودِ عَنْ قِيَامٍ إعْرَاضٌ بَلْ هُوَ أَجْمَعُ لِلرَّأْيِ، ثُمَّ تَبَدُّلُ الْمَجْلِسِ قَدْ يَكُونُ حَقِيقَةً بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ، إلَّا فِي الْيَسِيرِ فَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِخُطْوَةٍ أَوْ خُطْوَتَيْنِ، وَكُلٌّ مِنْ الْبَيْتِ وَالْمَسْجِدِ مَجْلِسٌ وَاحِدٌ، فَلَوْ انْتَقَلَ مِنْ مَكَان إلَى آخَرَ فِي الْبَيْتِ أَوْ الْمَسْجِدِ لَا يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ، وَكَذَا السَّفِينَةُ، وَإِنْ كَانَتْ سَائِرَةً لَا يُوجِبُ سَيْرُهَا اخْتِلَافَ الْمَكَانِ، وَالْمَجْلِسُ وَالدَّابَّةُ إذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ رَاكِبٌ كَالسَّفِينَةِ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الصَّلَاةِ شَرْعًا اعْتِبَارٌ لِلْأَمْكِنَةِ الْمُتَعَدِّدَةِ مَكَانًا، بِخِلَافِ الْمَشْيِ بِالْقَدَمِ فَإِنَّهُ لَا مُوجِبَ لِاعْتِبَارِ الْأَمْكِنَةِ الْمُتَعَدِّدَةِ فِيهِ مَكَانًا، إذْ لَمْ تُجَوَّزْ صَلَاةُ الْمَاشِي، وَلِذَا قَالُوا: لَوْ كَانَ خَلْفَهُ غُلَامٌ يَمْشِي وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ رَاكِبًا وَكَرَّرَهَا تَكَرَّرَ الْوُجُوبُ عَلَى الْغُلَامِ دُونَ الرَّاكِبِ، أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الصَّلَاةِ وَهِيَ سَائِرَةٌ فَيَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ.
وَقِيلَ إذَا كَانَ الْمَسْجِدُ كَبِيرًا يَخْتَلِفُ الْمَسْجِدُ، وَقَدْ يَكُونُ حُكْمًا بِأَنْ أَكَلَ أَكْثَرَ مِنْ لُقْمَتَيْنِ فِي غَيْرِ مَكَانِ التِّلَاوَةِ أَوْ تَكَلَّمَ أَكْثَرَ مِنْ كَلِمَتَيْنِ أَوْ شَرِبَ أَوْ نَكَحَ أَوْ نَامَ مُضْطَجِعًا أَوْ أَرْضَعَتْ وَلَدًا أَوْ أَخَذَ فِي بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ عَمَلٍ يُعْرَفُ بِهِ أَنَّهُ قَطْعٌ لِمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَإِنْ اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ لَا إنْ كَانَ يَسِيرًا. وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ، فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُوجِبُ الِانْتِقَالَ فِيهَا مِنْ رَكْعَةٍ إلَى أُخْرَى اخْتِلَافُ الْمَجْلِسِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا، فَلَوْ قَرَأَهَا فِي رَكْعَةٍ ثُمَّ كَرَّرَهَا فِي أُخْرَى وَجَبَتْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute