وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِزُفَرَ ﵀، لِأَنَّهُ لَا تَفْصِيلَ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلِيلِ
اللَّازِمِ لَوْ أَلْزَمَ أَحَدُهُمَا.
وَهَذَا الْمَعْنَى يَقْتَضِي تَجْوِيزَهَا مِنْ النَّهَارِ لِلُزُومِ الْحَرَجِ لَوْ أُلْزِمَتْ مِنْ اللَّيْلِ فِي كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ كَاَلَّذِي نَسِيَهَا لَيْلًا، وَفِي حَائِضٍ طَهُرَتْ قَبْلَ الْفَجْرِ وَلَمْ تَعْلَمْ إلَّا بَعْدَهُ، وَهُوَ كَثِيرٌ جِدًّا، فَإِنَّ عَادَتَهُنَّ وَضْعُ الْكُرْسُفِ عِشَاءً ثُمَّ النَّوْمُ، ثُمَّ رَفْعُهُ بَعْدَ الْفَجْرِ، وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَفْعَلُ كَذَا تُصْبِحُ فَتَرَى الطُّهْرَ وَهُوَ مَحْكُومٌ بِثُبُوتِهِ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَلِذَا تَلْزَمُهَا بِصَلَاةِ الْعِشَاءِ وَفِي صَبِيٍّ بَلَغَ بَعْدَهُ وَمُسَافِرٍ أَقَامَ وَكَافِرٍ أَسْلَمَ فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِصِحَّتِهَا نَهَارًا، وَتَوَهَّمَ أَنَّ مُقْتَضَاهُ قَصْرُ الْجَوَازِ عَلَى هَؤُلَاءِ أَوْ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُكْثِرُونَ كَثْرَةَ غَيْرِهِمْ بَعِيدٌ عَنْ النَّظَرِ إذْ لَا يُشْتَرَطُ اتِّحَادُ كَمِّيَّةِ الْمَنَاطِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، فَلَا يَلْزَمُ ثُبُوتُ الْحَرَجِ فِي الْفَرْعِ وَهُوَ الْمُتَأَخِّرَةُ بِقَدْرِ ثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ الْمُتَقَدِّمَةُ بَلْ يَكْفِي ثُبُوتُهُ فِي جِنْسِ الصَّائِمِينَ، وَكَيْفَ وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ الْمُصَحِّحُ الْحَرَجَ الزَّائِدَ وَلَا ثُبُوتَهُ فِي أَكْثَرِ الصَّائِمِينَ فِي الْأَصْلِ، فَكَذَا يَجِبُ فِي الْفَرْعِ، وَهَذَا لِأَنَّ أَكْثَرَ الصَّائِمِينَ يَكُونُونَ مُفِيقِينَ قَرِيبِ الْفَجْرِ فَقَوْمٌ لِتَهَجُّدِهِمْ وَقَوْمٌ لِسُحُورِهِمْ، فَلَوْ أُلْزِمَتْ النِّيَّةُ قَبْلَ الْفَجْرِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَخَلَّلُ الْمُنَافِي بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ لَمْ يَلْزَمْ بِذَلِكَ حَرَجٌ فِي كُلِّ الصَّائِمِينَ وَلَا فِي أَكْثَرِهِمْ، بَلْ فِيمَنْ لَا يُفِيقُ إلَّا بَعْدَ الْفَجْرِ وَهُمْ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِمْ بِخِلَافِ الْبَاقِينَ قَبْلَهُ إذْ يُمْكِنُهُمْ تَأْخِيرُ النِّيَّةِ إلَى مَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْحَاجَةِ مِنْ الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ فَتَحْصُلُ بِذَلِكَ نِيَّةٌ سَابِقَةٌ لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشُّرُوعِ مَا يُنَافِي الصَّوْمَ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ بِهِمْ، فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ عُلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ التَّيْسِيرُ بِدَفْعِ الْحَرَجِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَعَنْ كُلِّ صَائِمٍ وَيَلْزَمُ الْمَطْلُوبُ مِنْ شَرْعِيَّتِهِ الْمُتَأَخِّرَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا لَا يَخُصُّ الْمُعَيَّنَ، بَلْ يَجْرِي فِي كُلِّ صَوْمٍ لَكِنَّ الْقِيَاسَ إنَّمَا يَصْلُحُ مُخَصِّصًا لِلْخَبَرِ لَا نَاسِخًا، وَلَوْ جَرَيْنَا عَلَى تَمَامِ لَازِمِ هَذَا الْقِيَاسِ كَانَ نَاسِخًا لَهُ إذْ لَمْ يَبْقَ تَحْتَهُ شَيْءٌ حِينَئِذٍ فَوَجَبَ أَنْ يُحَاذِيَ بِهِ مَوْرِدَ النَّصِّ، وَهُوَ الْوَاجِبُ الْمُعَيَّنُ مِنْ رَمَضَانَ وَنَظِيرُهُ مِنْ النَّذْرِ الْمُعَيَّنِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُلْغِيَ قَيْدَ التَّعْيِينِ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ الَّذِي رَوَيْنَاهُ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ إبْطَالًا لِحُكْمِ لَفْظٍ بِلَا لَفْظٍ يَنُصُّ فِيهِ فَلْيُتَأَمَّلْ وَانْتَظَمَ مَا ذَكَرْنَاهُ جَوَابُ مَالِكٍ أَيْضًا. فَإِنْ قِيلَ: فَمِنْ أَيْنَ اخْتَصَّ اعْتِبَارُهَا بِوُجُودِهَا فِي أَكْثَرِ النَّهَارِ وَمَا رَوَيْتُمْ لَا يُوجِبُهُ؟ قُلْنَا: لَمَّا كَانَ مَا رَوَيْنَاهُ وَاقِعَةَ حَالٍ لَا عُمُومَ لَهَا فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ النَّهَارِ احْتَمَلَ كَوْنَ إجَازَةِ الصَّوْمِ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ لِوُجُودِ النِّيَّةِ فِيهَا فِي أَكْثَرِهِ بِأَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ ﵊ الْأَسْلَمِيُّ بِالنِّدَاءِ كَانَ الْبَاقِي مِنْ النَّهَارِ أَكْثَرَهُ، وَاحْتَمَلَ كَوْنُهَا لِلتَّجْوِيزِ مِنْ النَّهَارِ مُطْلَقًا فِي الْوَاجِبِ، فَقُلْنَا بِالِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ خُصُوصًا، وَمَعْنَاهُ نَصٌّ يَمْنَعُهَا مِنْ النَّهَارِ مُطْلَقًا وَعَضَّدَهُ الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ لِلْأَكْثَرِ مِنْ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ حُكْمَ الْكُلِّ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَوَارِدِ الْفِقْهِ، فَعَلَى اعْتِبَارِ هَذَا يَلْزَمُ اعْتِبَارُ كُلِّ النَّهَارِ بِلَا نِيَّةٍ لَوْ اكْتَفَى بِهَا فِي أَقَلِّهِ، فَوَجَبَ الِاعْتِبَارُ الْآخَرُ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّ بِالصَّوْمِ فَلَمْ يَجُزْ مِثْلُهُ فِي الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ لِأَنَّهُ رُكْنٌ وَاحِدٌ مُمْتَدٌّ فَبِالْوُجُودِ فِي أَكْثَرِهِ يُعْتَبَرُ قِيَامُهَا فِي كُلِّهِ بِخِلَافِهِمَا، فَإِنَّهُمَا أَرْكَانٌ فَيُشْتَرَطُ قِرَانُهَا بِالْعَقْدِ عَلَى أَدَائِهِمَا.
وَإِلَّا خَلَتْ بَعْضُ الْأَرْكَانِ عَنْهَا فَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ الرُّكْنُ عِبَادَةً، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ.
(قَوْلُهُ خِلَافًا لِزُفَرِ) فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَا يَجُوزُ رَمَضَانُ مِنْ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ لِأَنَّهُ فِي حَقِّهِمَا كَالْقَضَاءِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute