قال: وكان المهذب النقاش كنعته مهذباً وبآرائه للدول مرتباً، وهو من أهل بغداد وقد سافر إلى الشام وشاع صيته بالفضل لا سيما في علم الطب ومعرفته ونفق عليه نور الدين وأقطعه ضيعة وملكه أخرى، وكل طبيب في الشام يستحجج الآن بأنه تلميذه، وعرض جاهه وتقاصر عنه أشباهه ونجح سعيه لنور الدين في مرضاته ونجح سؤله للفوز بمرضاته وصار له عنده وخروج دخول ورأى مقبول وسعى بالنجاح مكفول فندبه نور الدين في هذه السنة للسفارة.
قال: وكلف نور الدين في هذه السنة بإفادة الألطاف والزيادة في الأوقاف وتكثير الصدقات، وتوفير النفقات وتعفير آثار الأيام وإسقاط كل ما يدخل تحت شبه الحرام. وأمر تكتب مناشير لجميع البلاد بإطلاق الطراف من الرسوم والتلاد فما أبقى سوى الجزية والخراج وما يحصل من قسمة الغلات على قوايم المنهاج. وحسبنا ما تصدق به على الفقراء في تلك الأشهر فزاد على ثلاثين ألف دينار من الذهب الأحمر قال: وكان إذا أمر بصدقة غلة أو ذهب تقدم خازنه بإحضار جماعة من أماثل البلد وعدوله من أهل كل محلة فيقول لكل واحد: كم تعرف في جوارك من ذي إضافة وصاحب فلقه (١١٦٧) ومستحق ومقتر ومعيل وغيرهم فيقول: أعرف كذا وكذا فيسلم إليه صدقات أولئك الأعداد حتى يستقرئ بالسؤال جميع الحاضرين من الأمجاد ثم يأتيه كل منهم ثبت بما فرقه.
قال: وكان برسم نفقته الخاص في كل شهر من جزية أهل الذمة مبلغ ألفى قرطيس في كسوته ونفقته ومأكوله ومشروبه وحوائجه المهمة حتى أجرة خياطه وخيطه وإبرته وجامكية طباخه وقدره ومعرفته من ذلك المقرر المعين النزر ثم يستفضل ما يتصدق به في آخر الشهر ويفضه على المساكين وأهل الفقر. وأما ما يهدى له من الثياب والألطاف والبرود والأفواف وهدايا الملوك من المناديل والسكاكين والمهاميز والدبابيس وكل كثير وقليل ودقيق وجليل لا يتصرف في شيء منه بل يعرض بنظره عنه وإذا اجتمع يخرجه إلى مجلس القاضي ليحصل أثمانها الموفورة ويصرفها في عمارة المساجد الهجورة. وأمر بإحصاء ما في محال دمشق من مساجد هجرت وخربت فأفاق على مائة مسجد وموضع يتبرك به ومشهد فأمر بعمارة ذلك كله وعين له وقوفاً وأدنى له من جهات استثمرها قطوفاً. قال: ولو اشتغلت بإحصاء وقوفه وصدقاته في كل بلد لطال الكتاب ولم أبلغ إلى أمد ومشاهدة أبنيته الدالة على خلوص نيته يغني عن خبرها بالعيان، ويكفي أسوار البلدان فضلاً عن المدارس والربط. وواظب على عقد مجالس الوعاظ وأكبرهم قطب الدين النيسابوري وهو شغوف ببركة أنفاسه المنبر وشاقه وعظه وراقه لفظه، وكذلك وفد إليه الفقيه شرف الدين عبد المؤمن بن شوروه ونال منه الحظوة وما أيمن تلك الأيام وأبرك تلك الشتوة.
قال: وفي يوم الاثنين رابع شهر رمضان ركب نور الدين على العادة وكنا نحن في إيوانه وكل منا متفرغ لشغله آخذ في شأنه فجاءني من اخبرني أن نور الدين نزل إلى المدرسة التي تتولاها وبسط سجادته في قبلتها لسنة الضحى وصلاها فقمت في الحال فلقيته في الدهليز خارجاً لما رآني توقف فقلت له: أن الموضع قد تشرف أما تراه انه من أيام الزلزلة كيف تشعث فقال: نعيده إلى العمارة، ثم حملت إليه وجوه سكر وشيئاً من ثياب وطيب وعنبر وكتبت معها.
عند سليمان على قدره ... هدية للنمل مقبولة
لا تقصر الملوك عن نملة ... عندك والرحمة مأمولة
رقى لمولانا وملكي له ... وذمتي بالشكر مشغولة
قال: ورأى محراب المدرسة غير مفصصة فنفذ لعمارتها فصوصاً مدهبة وذهبا ثم حم مقدور حمامه دون إتمامه. ووقعت إلى الموصل فرأيته ليلة في المنام يقول: الصلاة فلما انتبهت عرفت انه أشار إلى المحراب وانه الآن على هيئة الخراب فكتبت إلى الفقيه الذي كان الذهب عنده مودعاً أن يشرع في عمارته مسرعاً فلما عدت إلى دمشق في الأيام الصلاحية دخلتها يوم فراغ الصانع من عمارة المحراب وفزت من الغنيمة بحسن الإياب.