واستقل يوم الجمعة مستهل جمادى الآخرة بالرملة راحلا ليقصد بعض المعاقل فاعترضه نهر عليه تل الصافية فازدحمت على العبور العساكر المتوافية فما شعروا إلا بالفرنج طالبة بأطلابها حازبة بأحزابها مصحرة, حادرات أسادها في غابها, زايرة بزئيرها في مساعير سعيرها وذلك يوم الجمعة أول الشهر وقد تفرق الجمع وأمن الروع وسرنا والضياع مغبرة ولرحى الحرب عليهم مديرة فوقف الملك المظفر تقي الدين وتلقاهم بصدره, وسبك الرجالة بنيران سيوفه, وصدهم عن الحملات وقوفه ثم حمل على الخيالة بخيله وجرفهم بسيله فاستشهد من أصحابه عدد من الكرام انتقلوا إلى نعيم دار المقام, وهلك من فرسان الفرنج أضعافها.
وكان لتقي الدين ولد يقال له أخمد شاب أول ما طر شاربه وهو في ريعان شبابه الطري فقال له يا ولدي قد جاءت نوبتك فأين سطوتك فأقر عيني بأقدامك وأحسم داء الفزع ببراعتك وحسامك, فحمل وبلغ الطعان وراع تلك الرعان فأردى فارسا وفرسه وصد العدو وحبسه وخرج سالما إلى أبيه يعتقد أن تلك النهضة تكفيه. فقال له: عد يا أحمد فأن العود أحمد وقسا قلبه حتى كان مراده أن يستشهد فقدم الولد طاعة الله وطاعة والده على هوى نفسه وغامر وحشة الروع بأنسه, وأذنت الحملة الثانية بكسوف شمسه فأستشهد.
وكان له ولد آخر اسمه شاهان شاه في الأسر, وسبب ذلك عزته الداعية إلى الاغترار فإنه خدعه بعض مستأمني الفرنج بدمشق وقال له تجي إلى الملك وهو يعطيك الملك, وزور له كتابا واستحضر على لسان بعضهم خطابا فسكن إلى صدقه وصحبه ولم يدر أنه خدعه وسلبه فلما تفرد به شد وثاقه وغله وقيده وضيق خناقه إلى الداوية, وأخذ به مالا وجدد عندهم له حالا وجمالا وبقي في الأسر أكثر من سبع سنين حتى فكه السلطان بمال كثير وأطلق للداوية كل من كان عنده لهم من أسير. قال ولو أن لتقي الدين رداء لأودى القوم وأغلى السوم لكن الناس لما عرفوا الوقعة تفرقوا وراء أثقالهم ثم نجوا برجالهم دون رحالهم, وضربوا مجملتهم على السلطان فثبت ووقف على مقدمته من تخلف. وسمعته يوما يصف تلك النوبة ويقول رأيت فارسا يحث نحوي حصانه وقد صوب إلى مجرى سنانه ومعه آخران قد جعلا شأنهما شأنه فرأيت من أصحابي خرج كل واحد منهم إلى واحد فبادروه وطعنوه وقد تمكن من قربي فما مكنوه وهم إبراهيم بن قنابر وفضل الفيضي وسويد ابن غشم المصري واتفق بسعادة السلطان أن هؤلاء وأمثالهم من فرسان العسكر وافقوه وما فارقوه ومازال السلطان يسير ويقف حتى لم يبق من ظن أنه يتخلف ودخل الليل وسلك الرمل ولا ماء ولا دليل ولا كثير من الزاد واعلف ولا قليل وتسعفوا السلوك في تلك الرمال والأوغاث والأوعار حتى وصلوا إلى الديار المصرية وأذن ذلك بتلف الدواب وفقد كثير ممن لم يعرف له خبر ولم يظهر له اثر.
وفقد الفقيه ضياء الدين عيسى وأخوه الظهير ومن كان في صحبتهم فضلوا عن الطريق وكانوا سايرين إلى وراء فأصبحوا بقرب الأعداء فاكتمنوا في مغارة وانتظروا في بلد الإسلام على عمارة فدل عليهم الفرنج من زعم انه يدل بهم فأسروا وما خلص الفقيه عيسى وأخوه إلا بعد سنين بستين أو سبعين ألف دينار وفكاك جماعة من الكفار عندنا من أسار وما اشتدت هذه النوبة بكسرة ولا عدم نصرة وأن النكاية في العدو وبلاده بلغت منتهاها وأدركت كل نفس مؤمنة مشتهاها لكن في الخروج من تلك البلاد تشتت الشمل وتوعر السهل وسلك مع عدم الماء والدليل الرمل, وقبض من ضل به الطريق الأسر والكبل. ومما قدره الله تعالى من أسباب السلامة استظهار الأجل الفاضل في دخوله إلى بلاد الأعداء باستصحاب الأدلاء وأنهم ما كانوا يفارقونه في الغداء والعشاء وينفق عليهم ويقوم بكل ما يحتاجون إليه فلما وقعت الوقعة بدوابه وغلمانه وأصحابه وأثقاله وجماله وثب أصحابه في تلك الرمال والوهاد التلال حتى أخذ خبر السلطان فقصده وفرق ما كان معه من الأزواد على المنقطعين وجمعهم في خدمة السلطان (١٩٠أ) أجمعين وكان الناس في مبدأ توجه السلطان ودخول الأجل الفاضل معه إلى البلاد ربما تحدثوا وقالوا لو قعد وتخلف كان أولى فإن الحرب ليست من دأبه. ثم عرف أن السلامة والبركة والنجاة في استصحابه.