من كتاب فاضلي عن صلاح الدين: إن الله ملكنا دمشق عناية وعنوة ولم يكتب فيها بحمد الله إلى خطية خطوة، ولا حدث عثرة فيقال في أمرها لعله يقال، ولا استعيرت صفة في ذكرها لعلة تقال. وعرض في المبادئ تعرض من العسكر الدمشقي فعلموا أن الهشيم تذور الرياح والصريم يمحوه الصباح، والسيف أصدق أنباء والحق أعز أبناء والباطل يضمحل عفاء. "والزبد يذهب جفاء " إلا وأنا رأينا العفو أقرب للتقوى، وأمثل في سلوك الطريقة المثلى فحفظنا الدماء في أهبها وأرحنا القلوب من نصبها، ورددنا السيوف عن قرب تغيظها في قربها، وتركنا الرماح وأطرافها تضطرم وقدا وتضطرب حقدا، وقلنا لنا الغيظ "يا نار كوني بردا ونظرنا في أحوال البيت النورى أعلاه الله فإذا هو قد أطفيت مصابيح نورة، وكاد ذكره في الذهاب يلحق بمذكورة فاستأنفنا تدبيرات نؤمل أن الله سبحانه يقيم البيت الكريم على عمدة ويغنيه عن مسايدة من لا يعنيه عن سنده، وقضينا حق الملك الكريم الصالح وحق والده رحمه الله بإظهار الإحسان في كفالته، واستشعارا لجميل في خدمته. وقدكان ريحان مانع بتسليم القلعة ريثما علم أن لا يبقى بالرماح ريحانه وبقدر ما احتوى ضال فكره وأبصر حيرانة فأعطيناه أمانا وبوأناه منها مكانا، وصعد الأجل الأخ سيف الإسلام فملكها وسكنها واستقر ركابنا بالدار النجمية لتنفيذ الأمور والأوامر، وتدبير الرعايا والعساكر.
قال: ولما سمع المدبرون للملك الصالح بإقبال صلاح الدين الؤذن بإدبارهم حاروا في حوارهم، ولبسوا شعار استشعارهم وراسلوا بالعنف معنفين وبالعسف متعسفين. وكان الواصل منهم قطب الدين ينال بن حسان وقد تجنب في قوله الإحسان وقال له: هذه السيوف التي ملكتك مصر وأشار إلى سيفه تردك وعما تصديت له تصدك فحلم عنه السلطان واحتمله، وتغافل كرما وأغفله وذكر أنه وصل لترتيب الأمور، وتهذيب الجمهور وتربية ولد نور الدين، واستفاد أخوة مجد الدين. فقالوا له: أنت تريد الملك لنفسك ونحن لا ننزع في قوسك ولا نبني على أسك فارجع حيث جئت أو أجتهد وأصنع ما شئت ولا تطمع فيما ليس فيه مطمع ولا تطلع حيث ما لصعودك فيه مطلع. ونال من تقطيب القطب ينال ما أحال الحال وأبلى البال وأبدى التبسم وأخفى الاحتمال.
[ذكر رحيل السلطان إلى حمص]
مستهل جمادى الأول
قال: ولما رأى أن القصد لا يقضي إلى مقصود، وأن القوم لايميلون إلى نهج محمود عول على أخيه سيف الإسلام طغتكين " ١٧٩ا" في دمشق وأنالتها ورعاية رعايتها، ورحل ونزل على حمص يوم الأحد حادي عشر جمادى الأول ودخلها يوم الثلاثاء. وبقيت القلعة على الامتناع إلى أن أذن الله تعالى لها في الاستفتاح ورتب عليها من الأمراء من تفى حركته بسكون الدهماء وقلعتها أمتنعة وعلى سيوفها ارتفعت فسار إلى حماة وأخذها في مستهل جمادى الآخر ومضى ونزل حلب في ثالث هذا الشهر على قصد الحصر، وكانت الشتوه ذات أنواء وثلوج، وعواصف هوج، ومضايق كربة بلا فروج ومداخل شدة بلا خروج. وجرت شدة امتدت للمساق عدوة الشقاق مدة. وعصم الله حشاشته في تلك النوبة من سكاكين الحشيشيه، وأجرى من حفظه ما كان في غيب من المشيه. قال وسبب ذالك أن الحلبيين لما أشتد عليهم الحصار أستعانو بالإسماعيلية، وعينوا لهم أموالا وضياعا، وبذلوا من البذول أنواعا. فجاء منهم في يوم بارد من فتلكهم كل عات فعرفهم صاحب بو قبيس ناصح الدين خمارتكين. وقال لهم: لأي شئ جئتم، وكيف تجاسرتم على الوصول وما خشيتم فبدروه بسكينهم وقتلوه، وجاء من يدافع عنه ففتكوا به وبالجراح أثخنوه، وعاد أحدهم ليهجم على السلطان في مقامه وقد شهر سكين انتقامه وطغرل الأمير جاندار واقف ثابت حتى وصل إليه فشمل بالسيف رأسه، وما قتل الباقون حتى قتلوا جماعة وأقام السلطان إلى مستهل رجب ثم رحل وإلى حمص تحول وبحصر حصنهم أشتغل. وسبب ذالك أن قومس طرابلس ريمند الصنجيلي كان في أسر نور الدين رحمه الله مذ كسرة حارمن، وبقي في الأسر أكثر من عشر سنين ثم سعى الأمير فخر الدين الزعفراني في خلاصه.