وكانت بيننا وبين نجم الدين أيوب معرفة قديمة من تكريت حيث كان بها والياً وسببه أن عمي العزيز أحمد بن حامد ودعه السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه في قلعة تكريت إشفاقاً عليه من قصد من صار في منصبه فجد في نصيبه وبذل فيه ثلثمائة ألف دينار ليعتقل ويحضر هو ما بذله ويعجل فمال إلى المال وسير العزيز إلى تكريت برسم الاعتقال وذلك في سنة خمس وعشرين وخمسمائة فسعى ذلك الوزير في قتل السلطان بالسم واجلس أخاه طغرل في السلطنة وتفرد بالحكم فعلق رهن العزيز ودأب مراراً إلى تكريت من يباشر قتله فلم يقبل واليها نجم الدين خدعه وقتله وتولى أخو الوالي أسد الدين شيركوه صوته ولم يزل في حمايته وعونه. قال وسمعت أسد الدين في سنة اثنتين وستين وهو يحكي إلى نصرته لعمي فلما كنت جالساً في المحراب يوماً عنده وهو يقرأ من القرآن ورده فسمعت هاتفاً يقول: قد جعلك الله عزيزاً كما دافعت عن العزيز فالتفت غلي وقال: أعمل وأعلم. قال أسد الدين: فمن ذلك اليوم سمت همتي وتمت عزمتي وبدهاء عمك العزيز طمعت في مصر وان أصير عزيزها وحرصت على أن أملكها وأحرزها.
[ذكر سبب وصولي إلى دمشق]
قال: وكان انصرافي من بغداد ووصولي إلى الشام لا لقصد أحد من الكرام ولكن استوحشت هناك لفارط الاستدراك وذلك أن الوزير عون الدين يحيى بن محمد بن هبيره مال لفضله إلى فضلي واقتطعني إليه وولاني نيابته بالبصرة تارات وبوسط كرات وعرفت به فلما توفي في سنة ستين أقمت بغداد بعده وكل من هو إليه منسوب مكبوت ومكبوب وما طرقتني بحمد الله آفة ولا عرتني مخالفة وأنا إلى الفقهاء منقطع، وبالمناظرة وبالمباحثة معهم منتفع، ومنهم فقيه من أهل دمشق يصف طيب رياضها وبهجة جواهرها وأعراضها وصحة هوائها وقلة أمراضها فراقتني معرفته وشاقتني صفته فقلت أجعلها سنة فرجة أسافر لأسفار صبحي بسري دجله وأقصد إيناس قلبي وتنفيس كربي ورافقني وما فارقني حتى وصل بي إلى قرب دمشق فانقطع عني وساء بعد الإحسان به ظني فلم أدر في أي مطار طار والى أي مصير صار فبقيت غريباً وحيداً ولقيت من استيحاشي هما شديداً وقلت لأصحابي: أضربوا لي خيمة عسى أن نعرف أحداً يسدي يدا فقد رضينا بمصيف ومقيل بلا قيل وظل ولو انه غير ظليل.
وقد نمى خبري إلى بعض الصوفية فدخل إلى القاضي كمال الدين ابي الفضل محمد بن عبد الله بن القاسم الشهروزي وهو يومئذ قاضي دمشق وقال له فلان قد ورد البلد فبينا نحن في تحير وتفكر وتوهج وتسعر إذا جاء خواص القاضي وحجابه وعدول مجلسه ونوابه يعتذرون عن تأخره لأمر أناله وانه يخفي عنك سؤاله ويقول انزل حيث تختار النزول بالمدرسة فنزلت في المدرسة التي أنا الآن مدرسها وترددت إلى القاضي في محافل علمه ومجالس حكمه واستددلت واعترضت في الأصول والفروع على الأئمة الفحول. وعرف (١١٦٥) الأمير نجم الدين بالوصول فبعثته معرفة العم العزيز على التعرف بي فبكر إلى منزلي لتبجيلي وتحقيق تأميلي واستقبلته وأسرعت إلى بساط الأدب فقبلته وخدمته بهذه القصيدة في أواخر شوال سنة اثنتين وستين وأخوه أسد الدين شيركوه وولده صلاح الدين يوسف قد توجها في هذه السنة إلى مصر وهي النوبة الثانية.
قلت وأول القصيدة:
يوم النوى ليس من عمري بمحسوب ... ولا الفراق إلى عيشي بمنسوب
لم أنس أنسى بكم والشمل مجتمع ... وعيشتي ذات تطريز وتذهيب
أرجو إيابي إليكم ظافراً عجلاً ... فقد ظفرت بنجم الدين أيوب
ومنها في ذكر أخيه وابنه وما تفرس من ملك مصر وقد تم ذلك بعد سنتين.
غداً يشبان في الكفار نار وغى ... بلفحها يصبح الشبان كالشيب
ويستقر بمصر يوسف وبه ... تقر بعد التنائي عين يعقوب
ويلتقي يوسف فيها باخوته ... والله يجمعهم من غير تثريب
فأرجوا الإله فعن قرب بنصرته ... سيكشف الله بلوى كل مكروب