قال: وكان السلطان مدة مقامنا بعكا يندب العساكر إلى الولايات وسير الملك المظفر تقي الدين وأمره بقصد تبنين فمضى إليها واستسهل اجتيازها ووجد بالمنعة اغترارها ورأى إلى وصول الشام ونزوله عليها أغوارها فكتب وتواترت كتبه وافية بالحشد والتحريض والبعث بالتصريح والتعريض فأخذت العزايم في الاقتضاء والصواب في الانتظار ورحلنا يوم الجمعة تاسع جمادى الأولى رواحا وأعرنا العزم على تأييد الله في منزلة نزلت بها الألطاف وعذبت لمواردنا النطاف وأصبحنا على الرحيل وبتنا ليلة السبت دون تبنين ونزلنا عليها يوم الأحد الحادي عشر فوجدناها قالعة أرضها في السماء وقلعة في جوزها جواز الجوزاء ما يمر السحاب إلا على سفوحها ولا تسترق شياطين الكفر إلا من سطوحها لا جرم جعلنا (٢٣٤) نجوم النصال لها نجوما وأنزلنا الوبال عليهم سجوما وهاج بهم وهج الرعب وأبدوا وجوما وأخرجوا من عندهم من أساري المسلمين قرية وطاعة تبدو بهم للشفاعة منهم ضراعة ثم أمن السلطان أهل القلعة وأمهلهم إلى أن ينزلوا خمسة أيام وخرجوا من مقدميهم جماعة رهابين فضربنا عليهم خيمة إلى أن انتهت المدة وتسلمت القلعة واقتضت العذرة وخلص الحصن بما فيه وترتب وإليه وملكت أباعده ونواحيه.
وأما صيدا فأنا لما فرغنا من شغل تبنين رحلنا على سمتها معدين وعبرنا في طريقنا على صرفند ونشقنا رياح رياحينها ونظرنا نضرة بساتينها وجلنا لحكم الرياضة في رياضها وربضت أسودنا في آجامها وغياضها وافتتحتا بفتحها ثم انصرفنا عن صرفند نحو صيدا صابرين ودخلناها ساعة الوصول وحالة النزول فإن صاحبهما كان ناظرا في العواقب ساترا جرح النوايب فتقدم إلى نوابه أن يفتحوا لنا بابها ويرفعوا أحجابها ويخلوها ويعطلوها حتى يحلها المسلمون فيحلوها فلما جيناها حليت لنا عروسها وجنيت غروسها وذلك يوم الأربعاء الحادي والعشرين من جمادى الأولى فحان الفتح الميسر على الوجه الأسهل.
وأما بيروت فأنا لما حصلت لنا صيداً سرنا في يومنا على سمت بيروت وبتنا ليلة الخميس دونها وصبحنا بكرة يوم الخميس في خميس بكر للصباح وضايقناهم أياماً ودافعوا أشد دفع ومانعوا أحد منع فبيناهم في أحر حرب وأمر طعم طعن وضرب إذ صاح صائحهم وناح نايحهم أنهم يركبون السفينة وينزلون المدينة فأصبحنا يوماً على العادة المستمرة في المقارعة والمضايقة إلا بحروج واحد يستدعي الأمان ويستدعي الإيمان على أنه يأخذ خط السلطان بجميع شرايط الإيمان واتفق في ذلك اليوم لي تغير المزاج وتعذر العلاج واحتجت إلى مفارقة الخدمة للضرورة والوصول إلى دمشق لمداواة الأدواء المحذورة ولما احتاج السلطان لتأمينهم إلى إنشاء مثال طلبني فاعتالت فعذرني وأحضر عنده كتاب العسكر ومتصرفيه ومن يظن به فضلاً ويعتقد فيه وحسب أن كل من يحمل قلماً كاتب وأنه يستحق الرتبة من له راتب وكل من كتب الإيمان المطلوب تناوله منه وتأمله واستنقصه واستزاده.
فقال السلطان لكل عمل رجال ولكل جواد في حلبة السبق مجال وهنا عرف قدر العماد وأنه موافق موفق للإتيان بوفق المراد، فجاء إلى النجيب العدل بالحديث ووجدني في العارض الكريث وقال: أكتب هذا الأمان فإن هذا الفتح بقلمك مصدوق وقد خصك خالقك بالفضيلة فما يشاركك فيه مخلوق فقلت له: قد غلق رهني وذهب ذهني وحبس قلمي إلي فقال: إن كنت ما تكتب فأمل فقلت: أرجو أن تشملني السعادة السلطانية فاكتب ما يرضي فوفقني الله تعالى للمراد وهداني في الإنشاء لما يجب من الإصدار والإيراد ووقع ذلك التوقيع الموقع الحسن وسلم البلد خطى ثم ارتحلت إلى دمشق وعدت عند إبلالي وحال اعتدالي يوم فتح القدس وسلمت بيروت بحضوري وخرج منها ومن قلعتها الفرنج وامتلأ بهم إلى السور النهج وعاد الإسلام الغريب منها إلى وطنه وذلك يوم الخميس التاسع والعشرين من جمادى الأولى وكانت مدة النزول عليها إلى نزول أهلها ثمانية أيام.