للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال: كان شاور وزير مصر في أيام العاضد قد وصل إلى دمشق في سنة ثمان وخمسين يوم الخميس سادس شهر ربيع الأول ملتجأ إلى نور الدين فنصره على عدوه وسير معه أسد الدين شيركوه يوم الخميس العشرين من جمادى الأول سنة تسع وخمسين على قرار عينه وأمر بينه فمضى معه ونصره واسترد له موضعه وإعاده إلى مجلسه عادته وأظهره بعدوه فلما تمكن من منصبه قال لأسد الدين: اذهب فقد وقع عنك الغنى وغدر بعهده واخلف في وعده فأنف أسد الدين وأقام يتأسد ويبرق ويرعد. وكان شاور قد شاور الفرنج وهداهم في حرب الإسلام النهج فوصلوا بحميتهم وجمرتهم فتحصن شيركوه ومن معه بمدينة بلبيس وشاور في جنود مصر وحشودها والفرنج في قوامصها وكنودها. حاصروا ثلاثة أشهر فيها وهو يحميها حتى فلت جدودهم وملت جنودهم فبذلوا له قطيعة يأخذها منهم وينفصل عنهم وكانت المحاصرة في مستهل شهر رمضان إلى مستهل شهر ذي الحجة.

قال: وفي تلك السنة اغتنم نور الدين خلو الشام من الفرنج وقصدهم واجتمعوا على حارم فضرب معهم المصاف ورزقه الله الانتقام منهم وقتلهم وأسرهم ووقع في الاسار ابرنس انطاكية وقومص طرابلس وابن جوسلين ودوك الروم وذلك الحادي العشرين من شهر رمضان سنة تسع وخمسين وتسلم منهم بانياس. وعاد أسد الدين إلى الشام وجرى على عادته في خدمة نور الدين وفي قلبه من شر شاور الاحن وكيف تمت بغدره تلك المحن إلى أن دخلت سنة اثنتين وستين وخمسمائة فجمع وسار في أمل ووصل في سادس شهر ربيع الآخر إلى أطفح وعبر منها إلى الجانب الغربي وأناخ بالجيزة أقام عليها نيفاً وخمسين يوماً على محاذاة مصر واستعان شاور بالفرنج واستنجد بالكفر وفسح لهم في طروق الديار وجوس خلال الأمصار ورتبوا لهم بالقاهرة سوقاً أشاعوا كفراً وفسوقاً وعبر بهم من البلاد الغربية إلى الغرب وساقوا لموافقته على الحرب فلما عرف أسد الدين عبورهم رحل قدامهم فقربوا منه في موضع يعرف بالبابين فعبى صفوفه أطال في الملتقى وقوفه وحشاً قلبه بأثقاله وجماله وطبوله وأعلامه ووقف جانباً برجاله وأبطاله وظنوا انه في القلب وساق أكثرهم وراء المنهزمين ووقف الباقون وقوف المغيرين. وكان صلاح الدين واقفاً في صحبه في أبطال من حزبه فاغتنم خلو العرصة وانتهز بدو الفرصة وحمل على القوم وهم المقدمون فكسرهم وأسرهم وركب أكتاف فتاكهم وأعرى بيضه وسمره بهلاكهم وكان فيهم ملكهم وقد كاد يدركه ويدركهم. واجتمع إلى صلاح الدين من المفلولين جماعة فما شعروا إلا بالفرنج من وراء المنهزمين عايدة وكان ملك الفرنج في نفريسير وشاور معه وكاد يظفر به العسكر الإسلامي لكن الأصحاب (١٦٥ب) رأوا الفرنج عايدة اشتغلوا بهم وقتلوا منهم ومن تبعهم من المصرية ألوفاً وضايقوهم وأوسعوهم حتوفاً وحصل سبعون فارساً من فرسانهم في الإسار وقيدوا في خرايم الذل والإقتسار ولما تمت لصلاح الدين النصرة أقام وجمع الفل وجاء عمه أسد الدين وساروا بمن معهم إلى الإسكندرية ودخلوها ووجدوا مساعدة أهلها وحلوها ثم قال أسد الدين: أنا لا يمكنني أن أحصر نفسي وجماعتي في البلد فأخذ العسكر وسار إلى بلاد الصعيد واستولى عليها وجبى خراجها وصام بها وأقام إلى انقضاء العيد، وأقام صلاح الدين بالإسكندرية متصناً بها.

وأما شاور والفرنج فما كانت سلم منهم لمن سلم منهم قوة ولا نهضة وراء القوم مرجوة فعادوا إلى القاهرة وصمموا على قصد الاسكندرية فحاصروا صلاح الدين ودام الحصار شهوراً فما زاد المحصور على الحاصر الظهور وبلغ الحصار أربعة شهوراً وقوى أسد الدين بقوص واستنهض لقصد القوم العموم والخصوص فسمح الفرنج ذلك فرجعوا عن الحصار للخوف والاستشعار مما هو عليه من الاستظهار. وكان شاور قد استمال جماعة من التركمان الذين كانوا معه بالدينار. فلما راسلوا في المهادنة أجاب إلى القرار وطلب منهم عوض ما غرمه فبذلوا له خمسين ألف دينار ورجع صلاح الدين من الإسكندرية فقفلوا إلى دمشق ودخلوها بكرة يوم الاثنين ثامن عشر ذي القعدة وعادوا إلى عادة السعادة من الخدمة النورية والحسنى والزيارة.

<<  <   >  >>