فصل في كتاب إلى صدر الدين شيخ الشيوخ ببغداد في شهر ربيع الأول سنة ثمانين قد توافدت العساكر الشامية والجزرية والديار بكرية ووصل نور الدين بن قرا أرسلان في عسكره المجر وجنده المصحوب بالنصر، وعسكر صاحب ماردين في جمع كثيف ومطلع في السعد منير منيف وصاحب داراً وشهاب الدين أخو صاحب سنجار، وكل منهم ماضي العزم شديد السهم لما مهدنا له من المهم. ونحن متوجهون إلى الكرك يسر الله فتحه وقرن بمتجرنا في سبيل ربحه وقد استدعينا العساكر المصرية وتواعدنا بالوصول إليه والحصول عليه فأنا كنا أضعفناه وخربناه وخبرنا القتال عليه وجربناه وأن فتحه يستدعي تكرير العود إليه بالحصر وتكرير صفو العيش على أهل الكفر ولعل بمهمة سيدنا يتخذنا في الملتقى ويسعدنا في نيل الفتح المبتغي، قال وسرنا بالنصر واثقين وفي العزم صادقين ووصلنا الأساد بالتأويب والخبب بالتقريب حتى أنخنا في خامس ربيع الأخر بأعمال الكرك على أدر وما منا إلا من شرح الله له الصدر. ووصل الخبر بقرب العسكر المصري بالنصر الناصري والبأس العمري فتشوقنا إلى اللقاء وجينا إلى الكرك ونزلنا قبالة الحصن علة واديها وعادتها منا عواديها ووصلت العساكر المصرية ووصل الأجل الفاضل ثم وقع التظافر وكمل التظاهر على مضايقة الحصن بإعادة قوتها إلى الوهن فعبر السلطان إلى الربض ليقرب سهمه من الغرض وسكن دار الرئيس ونصب تسعة من المنجنيقات الكبار ورتب عليها نوب الليل والنهار وكان نصبها صفا قدام الحصار مبنية والأستار موثقة بأسباب الاستظهار فزارت الأسوار ورامتها بالداهية الدهياء حتى هدت اركانها وهدمت بنيانها وجردت من العمارة جدرانها وعمرانها، ولم يبق بيننا وبين الحصن مانع إلا الخندق الواسع العميق وقد تعذر فيه الطريق وكان من الأودية الهائلة والمهاوي والمهالك الغايلة ولم يكن في الرأي إلا طمسه وملوه بكل ممكن وردمه فبعد ذلك من الأمور (٢١٧ب) الصعاب وتعذر لحزونة الأرض وتمخرها إليه حفر الأسراب فأمر السلطان يوم الخميس سابع جمادى الأول بضرب اللبن وجمع الأخشاب وبناء الحيطان المتقابلة من الربض إلى الخندق وتسقيفها. وتسفيف ستايرها وتأليفها ولما تمت دروبها ومنافذها وكانت شعاب واسعة لا يزحم فيها الجاي الذاهب ولا يصدم فيها الماضي الايب وتوافدت رجال العسكر على ذلك وأتباعه وأشباعه على نقل ما يرمى في الخندق ويخشى به عرض ذلك المخرم وعمق ذلك المخرق فتمادى على ذلك تتابع الأيام والليالي وكاد أن يتساوى بالهدم والطم مخارم الأسافل والأعالي وكاد الفتح يقرب والنجح يكتب حتى عرض الونا وعنا وما عنا ودنا القدر بما دنا.
فصل من الكتاب إلى ابن قرا أرسلان وهان طم الخندق بالدبابات التي قدمت والأسراب التي بنيت وأحكمت فوجد الناس إليه طريقا مهيعا فهم يزدحمون آمنين من الخراج عاملين على الإفراج وقد أمتلأ الخندق حتى أن أسيرا مقيدا رمى بنفسه من السور إليه ونجا بعدما توالى من الفرنج رمي الحجارة عليه.
قال: ووصل كتاب الملك العزيز وكان مقيما بدمشق بوصول رسل الديوان العزيز صدر الدين شيخ الشيوخ وشهاب الدين بشير ومن معهما فكتبت من السلطان جوابا منه: وما أسعده حين فاز بخدمة سيدنا صدر الدين ولقد وفق في حضور حضرة جلاله كل يوم والتيمن بأنوار عزته والتبرك بإيثار أدعيته وقد ظهر أثر قدومه المبارك وبشرت ببشر وجهه وجوه الممالك فلنا كل يوم نصرة ومبرة من الله مبرة ومسرة معلنة بالمنايح مسرة.