وفي هذه السنة يوم الأربعاء ثامن رمضان قتل بآمد وزير قرا أرسلان وهو قوام الدين أبو محمد عبد الله بن سماقة قتله مماليك مخدومة غيلةً ومحلوا في مباغتته في الفنا حيلة. والسبب في ذلك أنه كان قد تمكن من الأمر وسكن إلى قوة نفسه وركن وكان أحد الأمراء الكبار المعروف بالصلاح فبلغ أنه تولى الأعراض وأنف من الوزير ولم يرض أن يتبعه وكلاهما مستشعر من صاحبه فتسبق الوزير إلى قبضه وحبسه واشتغل في التدبير بنفسه وتدانى أمسه وسيثق بقوم به يفتكون ولدمه يسفكون وكأنه تعلق بما في الغيب مكتوم وفي اللوح المحفوظ مكتوب محتوم فإنه وصل الخبر بقتله على ما تم من ختره وختله فإن جماعةً من المماليك المفردين تآمروا بينهم على الفتك بالوزير فجاء واحد إليه وهو جالس في ديوانه وإيوانه في الدست الأشير وعنده الأكابر والأماثل وهم ينتظرون الإذن على العادة فقال: الملك يدعوك وحدك يسألك عن حديث عندك فقام يسحب ذيل اختياله ولم يدر بما يستصحب من ويل اغتياله فدخل الدهليز وقد أغلقوا الباب الذي يصل فيه إلى الأمير وأغلقوا وراءه الباب الآخر لما تصوروه من التدبير فاغتالوا وفتكوا به وقتلوه ثم أخرجوا الصلاح من حبسه فلما تمكن قبض وسط وشرك أصحاب الوزير وقتل منهم من أدركه واستولى على كل ما ملكه ثم قتل أولئك القاتلين وكانوا به واثقين وعن مكره غافلين وبقي متولياً للدولة إلى أن أدرك الأمير رشده وإلى أن يبلغ أشده فاستبد بملكه وأخرجه من سلكه.
وفي هذه السنة توفي الفقيه المهذب عبد الله بن أسعد الموصلي بحمص وكان المدرس وكان علامة زمانه في علمه ونسيج وحده في نظمه وقد أوردت في صدر الكتاب ما يستدل به على فضله.
[ذكر العزم على الرحيل من حران]
قال: وكان السلطان قد كمل علاجه واشتد مزاجه وأراد أن يكون حركته بعد استكمال السكون واستيفاء الحظ من السهول قبل الحزون ولأنه في وسط الممالك وعلى جواز المسالك فتواترت في البلاد أخبار أبلاله وأنباء استبداده واستقلاله وكان عنده ولده الأعز الملك العزيز وأولاده الصغار الأعزة، والملك الظاهر بدمشق مقيم والأمر هناك مستقيم فلما ورد نعى الخاتون وناصر الدين وخلا شبله أسد الدين بعده في العرين وخيف على بلاده لصغر أولاده واحتج أيضاً إلى الاحتياط على ما في خزائنه واستخرج ما خلفه من ورثته من دفاينه. وكذلك الخاتون عصمة الدين خلفت أملاكاً وتراثاً وأوقافاً واسعةً وأثاثاً ولم يكن من الحركة بد ولم يكن إلا بحضور السلطان لتلك الخلات والاختلالات تسديد وسد.
قال: وفي هذه السنة لما كنا على ميافارقين وقد فتحناها ورد للسلطان مثال شريف امامي ناصري بتفويض ولاية ماردين وحصن كيفا إليه تاريخه غرة جمادى الأول. قال: ودخلت سنة اثنتين وثمانين والسلطان ساير بعساكر مفاخر عساكره وخيم على شاطئ الفرات وقد مشط البؤس وصفا من الصحة العبوس، وودعنا مظفر الدين صاحب حران من الفرات مصحوباً بالقوة والثبات مشحوناً وفلك آماله بالمكرمات، ورحلنا صوب حلب والملك العادل سيف الدين سلطانها على المقدمة وقد هيأ لقدومنا أسباب التكرمة ونزلناها في العشر الأوسط من المحرم فألفيناها كما ألفناها بالعدل آهلةً ومن الفضل ناهلةً والخطوب عنها زاهلة والقلوب بحب الدولة عامرة والنفوس بنعمة ربها متحدثةً ذاكرةً.
واحتفل الملك العادل بأخيه السلطان وحمل عنه وله وأظهر مجمل جميله ومفصله وقام بكل فرض وسنة في الخدمة وتقبله وما خلى أحد من خواصه إلا خولة ومولة.
وأضافنى الصنيعة ابن النحال كاتب الملك العادل واستضاف معي قوماً وفيهم نجم الدين بن المجاور الوزير العزيزي وقد بعثتني على مصاحبتي إليه وده العزيزي. وكان سكن الضيعة من قلعة حلب في برج من أبراجها وكانفي ذلك مذعوراً معذوراً فإنه كان بالإحتراز من المخالطة مأموراً وكان قد نفق على مخدومه واختص بسره واطلع على مكنونه ومكتومه. وكان نصرانياً من القبط ثم اضطر إلى الإسلام بسبب امرأة هوى بها وعشقها وحظى بها ورضيها وما سلمت له إلا بالإسلام فأذن سعده في إسعادها بتمامه واستقر أمره على نظامه وأفضى به التوفيق إلى التمكين ولم يزل معه حتى انتهى عمره في سنة تسعين.