قال: وكلما زاد ألمه زاد في لطف الله أمله وكل ما بان ضعفه قوى على الله توكله وأنا ملازمه ليلا نهارا وهو يملي على وصاياه ويفرق بقلمي على إعفائه عطايا، واشتدت به الحال ليلة أيس منه فيها الأطباء فلما أصبح المعتقون والوافدون إلى بابه وضجوا ضجة ارتجت منها الدهماء ولانت لسماعها الصخرة الصماء فسأل عن تلك الرجة وما موجب هذه الضجة فقيل له هؤلاء وفدك ورجائهم رفدك، وقد أشرفوا على الخيمة وخرقوا لأجلها حجاب الهيبة فدعاني وأمر بكتب أسمائهم وتفريق ما أجتمع في خزانته من المال على أقدارهم وتحقيق رجايهم وأعطى كل سايل وأغنى كل آمل فوجد بتلك السماحة راحة ترجى لعلته بها إزاحة واستمر مدة استمرار مرضه على بزل جوهر ماله وعرضه وكان خلقه أحس ما كان في حال الصحة يخاطبنا بسجاياه السهلة السمحة ولا يخلوا مجلسه من ذوي فضل وأولا نباهه وهم يتجاذبون بحضرته أطراف الفوايد ويهزون لمكارمه أعطاف المحامد فتارة في أحكام شرعيه وآونة في صناعات شرعيه ومره في أحاديث الأجواد وشيم الأمجاد ودفعة في ذكر فضايل (٢٢٤ ب) الجهاد ينزر أنه إن خلصه الله تعالى من نبوة هذه النوة أشتغل بفتح بيت المقدس ولو يبزل نفايس الأموال والأنفس وأنه لا يصرف بقية عمره إلا في قتال الأعداء الله والجهاد في سبيله وإنجاد أهل الإسلام والإقبال على قبيلة وأنه لا يترك شيمة الجود والسماحة بالموجود وربما استراح في بعض ساعات الليل والنهار إلى السماع إشارة الأشياء لأجل التفريح والانتفاع فإن ظفرنا بمفرد مغري ومطر ومطرب وصانع صوت وحسن لحن أحضرناه عنده فربما راقه وشاقه ووجد به أفراحه.
[ذكر الملك العادل سيف الدين ووصوله إلى حران]
قال: ولما سمع الملك العادل في حلب بمرض أخيه ووصوله إلى حران بادر بالوصول وقام بضبط الأمور وسياسة الجمهور والجلوس كل يوم في النوبة السلطانية لتولي مصالح الرعية وإقامة وظيفة السماط والعمل في كل مهم وبالاحتياط والتعدي لكشف المظالم وبث المكارم وسماع مشافهات رسل الجوانب وإبلاء كل عزر وإجلاء كل ذعر وتيسير كل عسير ورفع كل خرق ورتق كل فتق ولقد عصمنا إذ كنا على خوف من إرجاف يقوى وانتشار خبر سوء لا يخفى ولا سيم إذا خرج الأطباء وقالوا ما فيه أمل ولكل عمر أجل فهناك ترى الناس يستشعرون وبإبعاد ما يعز عليهم من أعلاقهم ودوابهم يستظهرون ما أراك من المهملين لا من الموقنين فقلت له: أنا لا أخاف إلا على سلطان فإذا ذهب فلا شداد لساني والذي يفوت أعز من المال والدواء ولأخاف على ذلك مع ذهاب الأصل من الذهاب فزال بالحضور العادل كل مخافة وسلم الله برأفته من كل آفة وكان الملك العزيز عثمان ولد السلطان مع أبيه مقتد بمعاليه مقتف بمراضية وكان من جملة وصاياه عند أشقائه أن أدرنني المحتوم ودنا اليوم المعلوم فقد خلفت أبا بكر وعمر وعثمان وعلي وكلهم أراه بمراد في إقامة الجهاد مليا يعنى بأبا بكر الملك العادل أخاه وبعمر تقي الدين بن أخيه وبعثمان وعلي ولديه الملك العزيز والملك الأفضل ورأى عليهما بكفالة سيف الدين وتقي الدين في مصر والشام العون وأقام الملك العادل إلى أن وضح المنهاج وصح المزاج وطابت القلوب وغابت الكروب ثم وصل مع أخيه إلى حلب وتم معه إلى حمص ودمشق وهب له نسيم مصر فاستجد لنشره النشق.
وبدى له من بعد ما اندمل ... الهوى برق تألق موهنا لمعانه
وسيأتي ذكر مضيه مع الملك العزيز إلى مصر في سنة اثنتين والثمانين ووصول الملك الأفضل من مصر وبعده الملك المظفر تقي الدين.
قال: وكان الأجل الفاضل في هذه السنة بدمشق مقيما والى إحسان منابى عنه في الحضرة السلطانية مستنيما فلما وصلنا في هذه النوبة إلى حران أول ما فتحت عيني عمى الملوك الفاضلي سافرا مسافرا وقد اصحبه لي تشريفا شريفة ووفرا أوفرا وأحضرني رزمة ثياب أرزمت لي ركابها بنجح منى ومنيح كل غنى وناولني كتابا وأوقفني على البحر بجواهره والفلك بجواهره.