وكان الأمير سعد الدين أنر مسعود أنار سعده وسار بالذكر الحسن مجده والسلطان يعتمد عليه في إعلانه وأسراره وإيراده وإصداره وأخته ابنة معين الدين أنر في حيالته فلم يعتمد إلا عليه ولم يسلم مدينة سنجار وقلعتها إلا إليه وولاه وقدمه وحكم سيفه وقلمه وأبقى عنده من خواصه من استحمد شيمه واستفرد في النجح ديمه. ولما قضينا بسنجار الآراب شاورنا الأمراء فقالوا قد توسطنا الشتاء والصواب الإقامة بمكان حتى ينقضي فصله وحينئذ نستأنف الفتوح ونستزيد من الله بزيادة الشكر بره الممنوح فرحلنا إلى نصيبين فأقمنا حتى ودعنا شيخ الشيوخ صدر الدين وشهاب الدين بشيرا وركبنا معه حتى توجه سايرا إلى العراق وشكى أهل النصيبين ما هاج من نصبهم بأبي الهيجاء فاستملنا إليه بصرفه رحال الرجاء واستصحبنا المذكور معنا ورحلنا إلى دارا وتلقانا أميرها صمصام الدين بهرام الأرتقى فأكرمناه واحترمناه وأرفدناه وأفدناه ووصلنا إلى حران في أوائل ذي القعدة وألقينا بها حران. وسار الملك تقي الدين بعسكره وعبر الفرات إلى حماه وعاد كل متغرب من بلده إلى مثواه وأقمنا بالمخيم بظاهر حران في الخواص من ذوي الاستخلاص في أحلى حالة وأجلى جلالة وقلنا أن الدهر قد أطمأن والأمر قد أرجحن، وأهل الموصل مع من وازرهم في حشد وطي ونشر وأظها، أيد وأظمار كيد وقد اغتنموا لتفرق جموعنا الجموع واعتزموا إلينا لرجوعنا الرجوع ونحن مع قلتنا ثابتون وفي حلتنا نابتون وهم يعتمدون إنا إذا سمعنا بجمعهم نتفرق وأننا نتأخر ولا نتقدم وعلى ما فرطنا في حقهم نتندم فاستحال تخيلهم واختل تحيلهم على ما سيأتي إن شاء الله تعالى ذكر وفاة الملك المنصور معز الدين فرخشاه بدمشق في جمادى الأولى سنة ثمان وسبعين
قال: وبعد انفصالنا عنه بالشام لازم الجهاد بجد الاجتهاد وصدق الاعتزام فوعك في نهضة من نهضاته وأعضلت خلاف ما اعتاد من أعضائه، ونهك بمرضه اشتدت عليه فعاد على دمشق منيبا إلى الله في طلب مرضاته وانتقل من حومة الشهادة إلى حمى السعادة ومن غار الاغترار إلى مقر الاستقرار ومن الرتبة إلى التربة ومن الوطن إلى الغربة فتبا للدهر ما تبقى بناته على بنيه ولا يلي بكبواته بالسوء سوى مواليه. لقد فجعت الدين والدولة به ملكا هماما ماجدا ماجد في الأمر إلا بلغ وغلب ولا سعى لنجح إلا ظفر بما طلب ولم تزل المستشار المؤتمن والمستجار المتمكن وكان السلطان (٢١٠أ) يقطع برأيه ويصل ويكلأ الثغور إليه ويكل. قال: رآني يوما بين يدي السلطان وهو يأمرني بفصول أكتبها ومقاصد في مجاوبات مكاتبات أرتبها وأنا ساكت مصغ وساكن غير لاغ ولا ملغ فعجب مني في السكوت والسكون وأطراقي وترك استفهامي عن طرق تلك الفنون فلعبت به مرجمات الظنون فقمت وكتبت الكتاب ونظمت تلك الآراب وكسوت كل معنى لفظ الفضل وختمت كل قضية بنص الفصل وزدت وزنت وعبرت بحصا الحصافة ما وزنت وجئت بالكتاب مسطورا وبالأدب منشورا فأقراه معز الدين فرخشاه فقال لله درك من فضلاء الكتاب وتلا " وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب" ولقد كان له في عقودي اعتقاد ولأموري افتقاد وهو من أهل الفضل ويفضل على أهله ويغني الكرام عن الابتذال بكرم بذله وكان من أخص خواصه وذوي استصفائه واستخلاصه الصدر الكبير العالم تاج الدين أبو اليمن الكندي أوحد عصره ونسيج وحده وقريع دهره، وهو علامة زمانه وحسان إحسانه ووزير دسته ومشير وقته ورفيق درسه وشعاع شمسه يروي بصوب روائه صواب آرائه. قال: وكانت منايح عز الدين بواعث القرايح ودواعي المدايح ولي فيه قصائد منها كلمة هائية موسومة مدحته بها في أول سنة صحبت فيها السلطان إلى مصر وهي سنة اثنتين وسبعين وعارضها تاج الدين أبو اليمن بكلمة بديعة في وزنها ورويها فأما كلمتي فهي:
بين أمر حلاوة العيش الشهي ... وهو أحال طلاوة الزمن البهي
وصبابة لا أستقل بشرحها عن ... حصرها حصر البليغ المدره
أما عقود مدامعي فلقد وهت ... وأبت عقود الود مني أن تهي
ومنها في المدح:
أنت بني أيوب أكرم عصبة ... هذا الزمان بفضل سؤودكم زهى
إن الملوك تخلفوا وسبقتم ابن ... السوام من العتاق الفره
أن يجحد الشاني علاك فهل ... ترى إشراق عين الشمس عين الأكمة