وكان نور الدين لما برز نجم الدين خرج إلى رأس الماء بعسكره وخيامه وأرهف للجد في الجهاد حد أغرامه ثم أقام بعد توديعه والوفاء بحق تشييعه إلى أن اجتمعت عليه عساكره ثم توجهنا إلى بلاد الكرك مستهل شعبان ونزلنا أيامنا بالبلقاء على عمان، وكانت الشعاب معشبة والمراعي ممرعة، ثم سرنا على طريق الوالة إلى الكرك وأقمنا أن نبلغ الغرض ونؤدي في فتحها المفترض لكن وصل الخبر بأن الفرنج قد اجتمعوا ووصلوا إلى ماعين فقال نور الدين نرى أن نصرف اعنتنا إليهم وبالله نستعين فرحلنا ومعنا ومعنا أمراء بنى ربيعة وقد استصحبوا من العرب المشيخة المطيعة ومقدما الفرنج هنفري وفليب بن الرقيق في مائتي رمح وألف فارس من التركبولية وراجل كثير من السرجندية فلما رأوا مثار عجاجنا ولوا مدبرين وقالوا: قد حصل مقصودنا من رحيلهم عن الحصن ولما عدنا وصلنا إلى حوران واستقبلنا شهر رمضان فختمنا بعشترا وادينا فرض الصيام.
[ذكر الزلزالة التي عمت بلاد الشام]
قال: وأصبحنا يوم الاثنين الثاني عشر من شوال وانا في خيمتي جالس فأحسست بالارض تحتى تموج كالبحر إذا عصفت به الرياح الهوداج فما أروعها زلزلة وأصدعها آية من الله منزلة وتواصلت الأخبار من جميع بلاد الشمام بما أحدثته من الإنهداد والانهدام وأن معاقد معاقلها انحلت واختلت (والتقت ما فيها وتخلت) فرحل نور الدين من عشترا يوم الثلاثاء ووصل إلى بعلبك يوم الأربعاء وسقنا وراءه ووصلنا يوم الخميس. وقد شرع نور الدين لما تهدم (ب) من بنيانها في التأسيس وكانت قلعتها تعلقت فأقام بنية تشييد أركانها ثم أتها الخبر بما تم على حمص وحماه وبعرين وحلب لأن أمر الله لا سيما بحلب غلب نزع عمارتها وسلب السلب فتقدم بترتيب أمور العمارة، وسلم إلى الثقات مالاً ووكل بالعمل صناعاً ورجلاً ثم سار إلى حمص وأظهر للم شعثها الحرص. وأما حصن بعرين فقد كان بيد الأمير زين الدين عمر بن لاجين فلما وقع سيبه وأخذ الله الأمير الكبير عين الدولة بن كوخات في خمسمائة فارس فإنه كان من الفرنج على خطر فجعلهم من مجاورته على حذر. وكان الهم الكبير في حلب لانهدام مبانيها وانهداد مغانيها فوصل نور الدين إليها وجد في عمارتها وأقبل عليها ورد إلى احكم القواعد بنيانها وأما سور البلد فإنه جدد منه المنهدم وكان بذلك مغرماً فلم يستكثر المغرم وأخذ له في كل بلد مجلساً حتى يكون من الزلزلة بعون الله مصوناً.
قال: من مكاتبة أنشاتها إلى المواقف المقدسة المستنجدية في المغنى قد أحاط العلم الشريف أجله الله بهذه الحادثة التي ألمت بالشام من الزلزالة التي تداعت له الثغور بالائتلام والمعاقل والحصون بالانهداد والانهدام ولم يكن إلا (عبرة لأولى الأبصار) موعظة وآية من الله لعبادة منذرة موقظة وقد عمت حتى عطلت كل حال وشغلت كل بال والحقت كل جديد ببال والحمد الله على كل حال وما سكنت النفوس من رعبها إلا بما دهم الكفار من أمرها فأنها وافقت يوم عيدهم وهم في الكنائس فأصبحوا للردى فرايس (شاخصة أبصارهم ينظرون)(فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون) ولولا اشتغالهم بما عراهم حيث انقلعت كل قلعة لهم من أساس بنيانها ورجف كل بلدة في أيدهم بهلاك سكانها لم تؤمن في نوبة هذه النبوة معرتهم ولم تخش بعد هذه المضرة إلا مضرتهم وأن بالثغور الإسلامية شدة افتقار إلى تحصينها وإعادة أبنية حصونها قبل أن يستفحل الداء ويتفرغ لشغلها الأعداء وما أولى المواقف المقدسة بإيلاء الأيادي وإسدائها وإعانة من تكفل بسد ثغور الإسلام وصد أعدائها وما أحوج الخادم إلى نظرة شافية وعازفة لهذا المذور كافية ولا ينهض بعبء هذه النوبة إلا بما يرفد به من المعونة وبما يشمله من بركات الأيام الزاهرة الميمونة.