خشيت أن ينقرض ذكره فأنشأت هذا الكتاب وأعطيته من البلاغة حظاً وأعرته من الفصاحة لحظاً وافتكرت وابتكرت صياغته معنى ولفظاً وسميته البرق الشامي لأني وصلت في شعبان سنة اثنتين وستين وخمسمائة في دولة الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي سقى الله عهده عماد الرحمة فصادفت الدولة في أيامه والأيام الصلاحية إلى السابع والعشرين من صفر سنة تسع وثمانين متناسقة المحاسن وهيبتها بطيبها مستمرة على حسنها مستقرة، ثم التفت فإذا هي كبرق ومض وطرف غمض وما أسرع ما انقضت وانقرضت تلك الليالي والأيام والشهور والأعوام.
وقد انقضت تلك السنون وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام. قال وأنا أقدم في هذا الكتاب ذكر نبذ من أحوالي مع السلطان ثم أبتدئ بذكر معرفتي به وخدمتي له وأضف مبادئ دولته إلى أن وصل إلى الشام وحضرت خدمته، وأصف سيره كل سنة وآتى بشرح حسناته بكل حسنة.
قال: ولم يزل قلمي لسيفه مشاركاً ولملكه مداركاً هذا للرزق وذاك للأجل، وهذا للأمن وذاك للوجل. وكان السلطان يعتمد على قلمي وينصر كتابته وهو يقول: الحمد لله الذي لم يضع على العماد اعتمادي وحاط إلى سداده سدادي ثم ما وفي أحد بعهده وفائي بعهده من بعده فأني سيرت معاني معاليه بالنازي الفاضلة وخلدت ذكره في مصنفاتي إلى قيام الساعة وأحييت ذكره بالوفاء وأهديت له حياة ثانية بعد الحياة. ولما نقله الله الكريم إلى جناب جناته واقتسم أولاده ممالكه قلت يسلكوا وينسكوا مناسكه وانهم يعرفون مقداري ويرفعون مناري ويشرحون صدري ولا يضعون قدري فأخلف الظن حتى قطعوا رسومي ومنعوا مرسومي وغوروا منابعي وكدروا مشارعي. قال ومما كتبته في كتاب يتضمن شكوى الحال ما حال ما غصبت أملاكه إملاكه ونصبت إشراكه فكتبت إلى المولى الفاضل في فصل يسلم فيه على ولدي القاضي الولد مقبل العين ويحييه إلى أن تصل القبل إلى اليدين والى أن يسر والده إذا هما في الفضل ثاني اثنتين وما أحسن قول سيدنا غصبت أملاكه ونصبت إشراكه إشراكه واستحسنت ازدواج هاتين الكلمتين ووقعتا مني بموقع بمشاركتي له في المكروهين قال وتمام هذا الفصل من الكتاب الفاضلي وقد شرح من أحواله واعتزاله وصبره واحتماله وتلطفه في تجويز الوقت واحتياله وشكره لقوم لا على إيصال ما لهم إليه ولكن على إيصاله إلى ماله ما ذكرني بابن حيوس وقد مطله صاحب دار الوكالة ببيع بضاعة له.
مضى الكرماء صانوا ماء وجهي ... بجود لا برفق بالسؤال
وما أنا بعد هم في الناس أبغى ... كريماً يشتري حمدي بمالي
قال ومما كتبته إلى الأجل الفاضل في شكوى قصيدة منها:
دمشق تقصد عظمي ... بعرقه أي عرقه
إخفاقه لرجائي فيها ... وللقلب خفقه
أقمت فيها وحيداً ... كالدر ضمته حقه
[[دولة نور الدين زنكي]]
[ذكر الوصول إلى الشام في سنة اثنتين وستين وخمسمائة]
قال: وصلت إلى دمشق في أيام جلاء حسنها وانجلاء حزنها وغناء أفنانها بالأغاريد وانتشاء إنشائها بالأناشيد فقدمتها في أطيب زمان ونزلت من المدرسة التي وليتها في أحسن مكان. وكان ملكها والذي يتولى ممالكها الملك العادل نور الدين ابو القاسم محمود بن زنكي وأعف الملوك واتقاهم وأثقبهم وأصلحهم عملاً واحجهم أملاً وأرجحهم رأياً وأوضحهم أيا. وهو الذي أعاد رونق الإسلام إلى بلاد الشام فاستفتح معاقلها واستخلص عقايلها وكانت للفرنج في أيام غيره على بلاد الشام قطايع فقطعها وعفى رسومها ومنعها ونصره الله عليهم مراراً حتى أسر ملوكهم وبدد سلوكهم وصان الثغور منهم وحماها عنهم وأحيا معالم العلوم الدوارس وبنا لمذاهب السنة والجماعة المدارس وانشأ الخانكات للصوفيه وكثرها في كل بلد وكثر وقوفها وأجد الأسوار والخنادق وأمر في الطرقات ببناء الربط والخانات وهو الذي أعان على فتح مصر وأعمالها وأنشأ دولتها ورجالها.
وكان صلاح الدين أحد خواصه وأخلص ذوي استخلاصه ولد نجم الدين أيوب من أكابر أمرائه لا يفارقه راكباً في ميدانه ولا جالساً في إيوانه يقف على رأسه ووالده من جلاسه وقد اقتدى به في جميع ما اتصف به من التقى والعفة والنزاهة والنباهة وآداب الملك وأحكام السلطنة فتلقن منه مبادئ الخيرات ثم جاوز بها في أيامه الغايات.