ولما انتهى إلى السلطان خبر عزمه قلق بتغربه وعلق بتقربه وقال لعمري أن فتح المغرب مهم لكن فتح البيت المقدس أهم والفايدة به أتم وإذا توجه تقى الدين واستصحب رجالنا المعروفة وأبطالنا الموصوفة ذهب العمر في اقتناء الرجال وإذا فتحنا القدس والساحل طوينا إلى تلك الممالك المواحل وعلم لجاج تقي الدين في ركوب اللجة واحتجاجه في سلوك تلك المحجة.
قال: ولكننا نكتب إليه بالوصول ليشافهه بوصايا ويطلعه على خفايا وحينئذ يعزم ويصمم فإذا وصل إلينا شغلناه وإذا استقالتا عثره أقلناه فكتب إليه يأمره بالقدوم عليه. ولما استقر أمر الملك العادل في المعيشة التي بها توحد الولاية المصرية التي بها تفرد استدعى نجاز أمر العزيز للسير معه فقرر السلطان لولده قوص وأعمالها ومرافقها وأموالها وأضاف إليه أجنادها ورجالها ورتب له رواتب ووظف له وظايف وعين له من خواصه حجاباً ومن ذوي استخلاصه أصحاباً ودون له ديوان وكتاباً، وودعه في العشر الأول من شعبان، وكان دخولهما إلى القاهرة في خامس رمضان. وأما الملك الظاهر فان السلطان سيره إلى حلب وانعم عليه بها وببلادها وساير قلاعها وأقاليمها وضياعها وأمر أمرائها يطاعته ومتبوعيها بتباعته، وندب معه شجاع الدين عيسى بن تلاشوا، ولم يزل الملك الظاهر من أيام صغره كبير القدر نسيج الدهر شديد التيقظ، سديد التحفظ بعيد المنال قريب النوال.
وأما الملك المظفر تقي الدين فانه لما وصل كتاب عمه بالاستدعاء سارع إلى تلبية النداء، فجاء يغذ السايرين نداء وخلى بمصر أصحابه وأسبابه فوصل الخبر بوصوله في العشر الاخير من شعبان وخرجنا لتلقيه، وخيم السلطان على كنف المصري فوق قصر أم حكيم فلما قرب ركبنا إلى موكبه وقرت عينه بلقيا عمه وظفر من السعادة وما في قسمه ونسى ذكر المغرب لإنارة مشرق سعده فلم يرجع إلى ذلك الحديث من بعده، وخاطبه السلطان بكل ما عاد بانسه النافر والسلو عن أمسه القابل ودخل إلى دمشق في آخر شعبان فابصرنا على وجهه هلال رمضان وعاد إلى ما كان له من البلاد ومنبح والمعرة ثم أضاف إليه ميافارقين وجميع ما في ذلك الإقليم من المعاقل وخصه من ممالكه بالكرايم والغنايم وكتب إلى مصر باستدعاء رجاله وإعلامهم بتأخر عزم المغرب بل إبطاله فامتثلوا الأمر وفارقوا إلى الشام مصر سوى ملوكه زين الدين يوزبه فانه رتب له عسكراً إلى المغرب فأخذه مأسوراً ثم اغزاه مع الغز في ثغرة من الثغور فألفاه مشهوراً مشكوراً فقدمه على الغزية الغزاة ولهم بلاء حسن في تجمع الكفر ولا قدر للبغاث مع البزاة.
[ذكر مكرمة لتقي الدين]
قال: أجلسني عنده يوم قدومه بالمخيم على المصري يبثني أسراره ويذكر لي في الحسن والإحسان آثاره وأطال معي حديثه عتيقة (٢٢٨ أ) وحديثه فجاءني من سارني بخبر أزعج خاطري وذلك انه أخبرني احتراق دكان في جواري غلبت عليه النار حتى أشرقت بها الدار فسألني تقي الدين عن المبارك فقد كان العصر القديم وقوع لنار في القربان إمارة قبوله وعنوان حصوله فأثر هذا القول في أريحيته ونفذ إلى يوم وصول إلى دمشق مائتي دينار وقال رم بهذا ما تشعث من هدم أو نار ولم يكن العهد بعيد بإنفاذ رسمي من مصر ودنانير مصرية مائتين ولم يستكثر فيكون الضنين وكم له عندي من أياد مبتكرة وكان يسمع لي قصيدة إلا استأنف لها جايزة جديدة ومما مدحته به في هذه الدفعة قصيدة سينية تشتمل على مائة وأربعين بيتاً أنشدتها إياه في ثالث رمضان من هذه السنة ومطلعها:
عفا الله عنكم من ذوي الشوق نفسوا ... فقد تلفت منا قلوب وأنفس
أما لكم ببلواى سلوة ... ولا لكم إلا بهمي تأنس
جرحتم فؤادي بل هدمتم تجلدي ... فهلا بعثتم طيفكم يتحسس
لم أنس أنسى بالحمى سقى الحمى ... عيشة لي مجنى ومجلس
ولي فيه من ثغر الحبيب وخده ... ومقلته راح وورد ونرجس
طننتم إنها تألف الكرى ... فهلا بعثتم فؤادكم يتحسس
ومنها في المدح:
بتوقيعه تجرى المواهب بحراً ... فهل قلم في كفه أم قلمس
وهل بظما الراجى مكارم ماجد ... عيون الندى من كفه يتحيس
تشكى إليه الغرب جور ملوكه ... فأشكيته والجور بالعدل يعكس
يستر بالنقع السماء كأنها بخو ... في فتاكم بالعجاج يترمس