قال: ولما اسقط نور الدين الجهات المحظورة عزل الشحن وصرف عن الرعية بصرفهم المحن وقال للحاكم انظر أنت في العوادي وما يجري فيها من الدعاوى وميز بين المحاسن والمساوئ واحمل الأمور فيها على الشريعة فرتب على بابه حاجبه أبا نصر وأمره بما يصلح في كل أمر وحمل للخزانة من عنده من الأطلس مائة ثوب وأراد الخالص فلم يخل من شوب، ولم يكن كمال المواريث الحشرية حاصل ولا لديونه طائل فجعل نور الدين ثلث ما يحصل من الحشرى للقاضي كمال الدين فوضحت حواده وصحت مواده وكان من قبل لا يخلو الحشرى من وصية يثبت محضرها وقضية يحرر موردها ومصدرها، ودين يدعى وجانب يرعى فلما صار ثلثه للقاضي أزال نوابه نوايبه وصرفوا عنه شايبه ووفروه وكثروا وأعذبوه عده (١٦٧أ) وأعزروه وما كان نور الدين يحاسب القاضي على الوقوف وقال: أنا قد قلدته أن يتصرف بالمعروف وما فضل من مصارفها وشروط واقفها يأمره في بناء الأسوار وحفظ الثغور وكانت دولته نافذة الأوامر منتظمة الأمور.
عاد حديث مصر وما دبره صلاح الدين قال: ولما رسول نور الدين وهو الموفق خالد أطلعه على كل ما فيه، أحصى له الطريف والتالد وقال: هؤلاء الأجناد فأعرضهم واثبت أخبارهم وتأمل اعتبار إقطاعياتهم ومقادير واجباتهم ولا يضبط مثل هذا الإقليم إلا بآمال العظيم، وشرع في جمع مال يسيره ويحمله بجهد ويبذله وقال: الموارد مشفوهة والشدايد مكروهة وحصل لخالد ما لم يحصل في خلده وجاء مطرف غناه أضعاف متلده.
قال: واجتمع جماعة من دعاة الدولة المصرية وتوازوا واعتقدوا منية عادت عليهم بالعقبي منية، وعينوا الخليفة الوزير، وأحكموا الرأي والتدبير وكان عمارة اليمني الشاعر فيهم عقيدتهم ودعا للدعوة قريبهم وبعيدهم وكانوا قد ادخلوا عدة من أنصار الدولة الناصرية في جملتهم وكان الفقيه الواعظ زين الدين علي بن نجا يناجيهم فيما زين لهم من أعمالهم ويدخلهم مطلعاً على أحوالهم فجاء واطلع صلاح الدين على فسادهم وطلب ما لابن كامل الداعي من العقار والدور وكل ماله من الموجود والمدخور فبذل له صلاح الدين كل ما طلبه وآمره بمخالطتهم فصار أمرهم يقوى وحديث حادثهم يروى فأمر صلاح الدين بإحضار مقدميهم واعتقالهم لإقامة السياسة فيهم. وصلب يوم السبت ثاني شهر رمضان جماعة منهم عمارة ورجل يعرف بالعويرس وآخر بعبد الصمد وآخرون وانقطع حديثهم وهلك جريرهم وبعيثهم. وكان منهم داعي الدعاة ابن عبد القوي وكان عارفاً بخبايا القصر وكنوزه وخفايا السر ورموزه فهلك دون إخفائها وباد ولم يسمح بإبدائها وبقيت تلك الخزائن مدفونة وتلك الدفاين مكنونة وقد دفن دافنها وخزن تحت الثرى خازنها إلى أن يأذن الله في الوصول إليها والاطلاع عليها.
قال وهذه لمع من شعر عمارة فمنها قوله في قصيدة:
ملك إذا قابلت بشر جبينه ... فارقته والبشر فوق جبيني
وإذا لثمت يمينه وخرجت من ... إيوانه لثم الملوك يميني
ومنها قوله في شمس الدولة تورانشاه بن أيوب من قصيدة.
لي في هوى الرشاء العذري عذراً ... لم يبق لي مذ أقر الدمع أزكار
لي في القدود وفي لثم الخدود وفي ... ضم النهود لبانات واوطار
هذه اختياري فوافق أن رضيت به ... أو لا فدعني وما أهوى واختار
أول كتاب فاضلي من صلاح الدين إلى نور الدين: أدام الله تعالى سلطان المولى الملك العادل نور الدين وحرس من النعم ما خوله وأنهضه بالأمر الذي حمله وحمى من الكدر منهله وصان من الغير منزلته ومنزله ولا زالت الأيام مطايا إلى بلوغ الأماني واكتب تتفاتح إليه بمعاني التهاني وزمانه مسفراً عن نيل المراد في أهل الإلحاد وإقامة حدود الله فيهم بالغرامات الشدد والسيوف الحداد.
قال: وأمر نور الدين ولده الملك الصالح إسماعيل يوم عيد الفطر واحتفلنا لهذا الأمر وغلقت محال دمشق أياماً وبنيت القصور طباقاً وكل منهم رتب المغاني بأغاني وطيب الأوطان بتهادى التهاني وعاش معبد والغريض وشاع النشيد والقريض واتفق الطهر في أيام الورد وعصر طرده للبرد.
قال: ونظمت في الهناء بالطهر والعيد قصيدة أولها.
عيدان فطر وطهر قريب ونصر ... كلاهما لك فيه حقاً هناء وأجر