قال: وفي يوم الأحد ركب نور الدين على الرسم المعتاد والقدر يقول له هذا آخر الأعياد ووقف في الميدان الأخضر الشمالي لطعن الحلق ورمى القبق وحوله كماة الكفاح ورماة الحدق والأكابر تحت ركابه وقوف والعساكر للمثول ببابه صفوف والسوابق مضمرة والبيارق مشهرة (واليوم يوم الزينة) والنظارة أهل المدينة، وكان قد ضرب خيمته في الميدان الأخضر (١١٦٨) وأمر بوضع المنبر وخطب له القاضي شمس الدين بن الفراش قاضي العسكر وعاد إلى القلعة طالع البهجة بهيج الطلعة وانهب سماطه العام على رسم الأتراك وأكابر الأملاك ثم حضرنا على خوانه الخاص وما وضح بشره وأوضع نشره وأضحك سنه وأبرك يمنه وفي يوم الاثنين ثاني أيام العيد بكر وركب وكان الفلك بتيسييره جار والطود الثابت (يمر مر السحاب في وقار ودخل الميدان والعظماء يسايرونه والفهماء يحاورونه وفيهم همام الدين في كلامه عظة لمن يغتر بأيامه: ترى نكون ههنا في مثل هذا اليوم من العام القابل فقال نور الدين ما معناه قل هل نكون بعد شهر فان السنة بعيدة فجرى على منطقهما ما جرى به القدر الساكت فان نور الدين لم يصل إلى العام.
ثم شرع نور الدين في اللعب بالأكرة مع خواصه فاعترضه في حاله أمير آخر برتقش وقال له: باش فأحدث له الغيظ والاستيحاش واغتاظ على خلاف مذهبه الكريم وخلقه الحليم وزجره ونهره وساق ودخل القلعة ونزل واحتجب واعتزل ولا شك أن المريض تمكن منه وهو واكب عن إظهار ما به ناكب فبقى أسبوعاً في منزله مشغولاً بنازله والناس لا هون بالختان فما انقضت تلك الأفراح إلا بالأتراح وما انقضى ما أتيح من السرور إلا بظهور القضاء المتاح وما نهض الجناح إلا منهاض الجناح وما صلح الملك بعده إلا بالملك الصلاح.
[ذكر وفاة الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بن آقسنقر]
رحمه الله بقلعة دمشق قال: واتصل مرض نور الدين وأشار عليه الأطباء بالفصد فامتنع، وكان مهيباً فما روجع وانتقل يوم الأربعاء حادي عشر من شوال من مرتع الفناء إلى مرتع البقاء ولقد كان من أولياء الله المؤمنين وعباده الصالحين وكانت له صفة في الدار التي على النهر الداخل إلى القلعة من الشمال وكان جلوسه عليها في جميع الأحوال فلما جاءت سنة الزلزلة بنى بازاء تلك الصفة بيتاً من الأخشاب فهو يبيت فيه ويصبح ويخلو بعبادته ولا يبرح فدفن في ذلك البيت الذي اتخذه حمى من الحمام وأذن بناؤه لبانيه بالانهدام. واخرجوا يوم وفاته الملك الصالح وهو مجزوز الذوايب مشقوق الجيب حاف حاسر وأجلسوه في الإيوان الشمالي على التخت والدست الباقي من عهد تاج الدولة تتش فوقف الناس يضطربون ويضطرمون ولما كفن ودفن حضر القاضي كمال الدين وشمس الدين محمد بن المقدم وجمال الدولة ريحان وهو أكبر الخدم والعدل ابو صالح بن العجمي أمين الأعمال والشيخ خازن بيت المال وتحالفوا على أن تكون آراؤهم واحدة وأيديهم متساعدة وان ابن المقدم مقدم العسكر.
قال: وأنشأت في ذلك اليوم كتاباً عن الملك الصالح إلى صلاح الدين ترجمته ولده إسماعيل بن محمود ومفتتحه أطال الله بقاء مجلس سيدنا الملك الناصر السيد الأجل وأدام سموه وعظم أمراء الحضرة ومماليك الدولة وإنشاء النعمة وأولياء الطاعة وأرقاء الخدمة على البيعة المؤكدة والإيمان المغلظة والمواثيق المستحكمة بعقائد متعاقدة على الصفاء وأعضاد متعاضدة بالوفاء وحلف الأصاغر والغيب والحاضر وأذعنت الرؤوس (وعنت الوجوه) وسكنت النفوس وعمت بركات الوالد السعيد رحمه الله في ثبات ملكه أو أن زلزال طوده الشامخ وسكون الدهماء بعد حال تخلخل عزه الباذخ. ومنه وما ههنا ما يشغل السر غير شغل الفرنج خذلهم الله وقد عرف السيد أدام الله علوه ما يتعين عليه في مثل هذا الخطب الملم واليوم الدلهم من كل ما يعرف من خصوص وفائه وخلوص ولائه وطيب المحتد وزكائه وكرم النجر وسنائه فما كان اعتماد مولانا السعيد الملك العادل رضى الله عنه إلا عليه وسكونه إليه إلا لمثل هذا الحادث الكارث فقد أدخره لكف أنياب النوايب وأعده لحسم أدواء المعضلات اللوازب وأمله ليومه وغده ورجاء لنفسه وولده ومكنه قوة لعضده وأيدا ليده.