وكان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي في عهده عرف بنور فراسته فتح البيت المقدس من بعده فأمر في حلب باتخاذ منبر للقدس. تعب النجارون والصناع والمهندسون فيه سنين وأبدعوا في تركيبه الأحكام والتزيين وبقي ذلك المنبر بجامع حلب منصوباً سيفاً في صوان الحفظ مقروباً حتى أمر السلطان في هذا الوقت بالوفاء بالنذر النوري ونقل المنبر إلى موضعه القدسي فعرف بذلك كرامات نور الدين التي أشرف سناها بعده بسنين وكان من المحسنين الذين قال الله فيهم " والله يحب المحسنين " ثم أمر السلطان بترخيم المحراب (٢٣٧أ) وتعظيمه وتخصيصه في عمارته بأعم أسباب تكريمه فجاء على ما تشاهده الآن العيون ويتفرع من حسنه وإحسانه الفتون.
قال: ولما قضيت الصلاة تلك الجمعة نصب سرير الوعظ. وتقدم السلطان إلى الفقيه ابن نجا الواعظ لشرع السرير وينفع بعظاته الصغير والكبير وحضر المجلس بمرأى منه وسمع وكان أنور مجلس وأجلى وأشرف جمع ومجمع فحقق ورفق وأشهد وأشهق وذكر الفتح وبكارته والقدس وطهارته وما أعه الله لهذه الطائفة من الطارفة الطارقة وما أنزله من الأمن على القلوب الخائفة ووصف ببلاغته ما لا يبلغ إليه الألسن الواصفة وكان يوماً راجحاً وصوماً رابحاً.
وأما الصخرة المقدسة فإن الفرنج كانوا بنوا عليها كنيسة وأعادوا رسومها القديمة دريسة وستروها بالأبنية وكسوها صوراً هي أشنع من التعرية وملؤوها بتصانيف التصاوير ونبتوها في ترخيمها أشباه الخنازير فتقدم السلطان بكشف قناعها ورفع أوضاعها ومحو صورها ورخص وضرها فحببت بالقبل وفديت بالمقل وغسلت بالأدمع واشتعلت بنار الأضلع ولما ظهرت الصخرة وجدناها قد أبقت بها النوائب حزوزاً فإن الفرنج كانوا نقلوا إلى بلادهم منها قطعاً وأبدعوا فيها بدعاً حتى قيل أنها بيعت بوزنها ذهباً وأفضى الأمر بها إلى أن يكون حجرها منتهياً فغطاها بعض ملوكهم إشفاقاً عليها لئلا تمتد يد ضيم إليها فأبقت جزورها في القلوب حزازات وما حديث جلاتها في الآفاق بروايات وإجازات. وتولاها بعد ذلك الفقيه ضياء الدين عيسى فضلها بشبابيك من حديد وثبت أركانها بكل تشديد وأقام السلطان بها أماماً أحسن التلاوة وحافظاً للقرآن وحمل إليها وإلى المسجد الأقصى ربعات ومصاحف ورتب بها للقراءة أوراده وظايف فافتتح فيها بالختمات وختمت بالدعوات ودعيت بالصالحات والحمد لله الذي شد ظهر الإرشاد إلى صخرته وملأ قلوب الأولياء بمسرة الدين ونصرته أسرته.
[ذكر ما شرع فيه الفرنج من أداء القطيعة]
قال: وشرع الفرنج في إخلاء البيوت وبيع ما ذخروه من الأثاث والقوت وأمهلوا حتى باعوا بأرخص الأثمان وكان خروجها بالمجان ولا سيما ما تعذر لثقله نقله وصعب حمله وكان كما قال الله "كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قواماً آخرين " فباعوا ما تهيأ على البيع إخراجه وغلبوا على ما في الدروس الماعون والمذخور، وكانت كنيسة قمامة وهي كنيستهم العظمى مبسوطة بالبسط الرقاع مكسورة بالستور من النسيج والحرير الممزوج من ساير الانواع والذين يذكرون أنه قبر عيسى عليه السلام محلى بصفائح الفضة العين ومصوغات الذهب واللجين مصفح بالنضار مثقل من نفايس الحلي بالأوتار فأعاده البطرك منها عاطلاً وتركه طللاً ماثلاً فقلت للسلطان هؤلاء إنما أخذوا الأمان على أموالهم فما بال هذا المال وهو بالوف يحملونه في أثقالهم فقال هم يعرفون هذا التأويل ويقولون لم يحفظوا العهد ولم يلحظوا العقد ونحن نجيبهم على ظاهر الامان ونغريهم بذكر محاسن الإيمان وكانت المهلة أنه من عجز بعد أربعين يوماً عن أداء ما عليه من القطيعة ضرب عليه الرق فتولاهم النواب بعد خروجنا من القدس وبقي منهم من ضرب عليهم الرق خمسة عشر ألفاً في الحبس ففرقهم السلطان وتناهيت بهم الممالك وحصلت لي منها سبايا نسوان وصبيان وذلك بعد أن وفي بارزان بالضمان وأدى ثلاثين ألف دينار واخرج من ذكر أنه فقير بحسب الإمكان وكانوا تقدير ثمانية عشر ألفاً واعتقد أنه لم يبق فقير وبقي على أداءه على ما ذكرناه كثير.