أدام الله أيام الديوان ولا زالت منازل ملكه منازل التقديس والتطهير وموالاته ووسيلة التمحيص والتكثير، ومواقف الأولياء ببابه مواطن السجود والتعفير والولاية من قبله علامة التمليك والتأمير، والوقوف بأقصى المطارح من مرائه موجب التقديم والتصدير وآيات نعمة الله في وجوده واضحة تغنى فيها الألباب عن التبيين والتفسير، والأمة مجموعة بأمامته جمع السلامة لا جمع التكسير الخادم ينهي الذي يحمله على ما يحمله إلى الديوان العزيز من كتبه ويبديه من رسله ويجيب به دواعي طبعه في الولاء المسترسل على لا سجيته أو يحركه المنبعث فيه على رسله أمران أحدهما أن الذي يفتتحه من البلاد ويتسلمه أما بسكون التغمد (٢١٤ب) أو بحركة ما في الأغماد إنما يعده طريقا إلى الاسنتنفار إلى بلاد الكفار وإنما يحسبه جناحا يمكنه به المطار إلى ما لامسه الكفر من الأقطار.
والثاني أعلام أمير المؤمنين أن تقليداته وتقليدات آبائه الطاهرين إذا صدرت عنه وعنهم قريت وما عصيت، ونفذت وما نبذت فيعلم أن له عبدا يمتثل أمره ويلزم الناس امتثاله وخادما يطيع الحكم الجليل ويحكم على غيره بطاعته وإجلاله. وعلى هذه التقدمة فهو يستفتح هذه الخدمة بذكر ظفرين للإسلام برى وبحرى أحدهما وهو البحرى عود أحد الأسطولين اللذين أغزاهما أخوه أبو بكر بمصر وكانت مدة غيبته من وقت خروجه إلى وقت عوده إلى دمياط تسعة أيام لأنه غادرها في خامس عشر المحرم وقفته رابع عشرينه فظفر ببطشه مقلعة من الشام فيها ثلثمائة وخمسة وسبعون منهم خياله ذووا شوكة وازعة وتجار ذووا ثروة واسعة فأخذ الله بأيدي الأولياء برقابهم ومكن الحطم والقصم من صلبهم وأصلابهم ومسخ عزة أقدامهم بذلة أحجامهم وسيوفهم اللاتى في أيديهم سلاسل ومليت آمال المجاهدين أموالا وأثقالا وانقلبوا بالقلوب خفافا وبالأيدي ثقالا وبرد مغنمهم بعد ما تقدمه من حر الحرب وعادوا عن البحر الملح شاكرين لما أوردهم من المشرب العذب.
والظفر الثاني وهو البري ما طولع به من مصر من نهوض فرنج الداروم إلى أطراف بعيدة وهذه العصبة ملعونة لا ترع الأعنة ولا تنزع الأسنة تسري فتسبق الصباح وتدلج فتستصيح الرماح فنزل بهم وإلى الشرقية فركب الليل فرسا أركبوه حملا وسروا ثقيلا وسرى رملا فتوافى الفريقان إلى ماء يعرف بالعسيلة سبق الفرنجة إلى موردته والسابق إلى الماء محاصر المسبوق ووردوا الازرقة فتعصب لأرزقتهم فظن المؤمن أن الكافر مرزوق واشتد بالمسلمين العطش وفل أيديهم الدهش فأنشأ الله في ناجز الهواجز سحابة ماء صيفي شفاهم بها "من فوقهم ومن تحت أرجلهم" وأمسك به أيديهم فاستمسكت على أنصلهم فثابوا إلى الفرنج بقوة أنجاد السماء بالماء وثاروا إلى الملاعين الأعداء بالعزم الجري ذاكرين معجزة اليوم البوري يوم من الله على أهله بالتطهير والري فلم ينجي من الفرنج إلا رجلان أحدهما الدليل والآخر الذليل وانجلت الجلا بعد أن صاروا معصفين، وتساقوا كؤوس الموت تحت ليل العجاج مغتبقين فاقطعت شوكة شديدة وفلت شكا طفر جديدة وعاد المسلمون برؤوس عدوهم في رؤوس القنا وقد اجتنوا ثمراتها وبأرواحهم في صدور الظبي وقد أطفأوا بمائها جمراتها.
قال: ولما تم الفراغ من شغل حلب وأعمالها وتسديد اختلالها فاستصحبنا عساكر حلب والجزيرة واجتمعنا في جموع كثيفة كبيرة وتلون السلطان بتل السلطان مخيمين على غزو الغزاة مصممين فنما وصلنا إلى حباب التركمان حتى وصلت قبائل التركمان فتفرقت العساكر في الطرق وأجدت في الجيب والعنق حتى ناطحتنا قرون حماه، وصافحاتنا سعود قرانه، وقرت بنا عيون أعيانها فأول من تلقانا ببره القاضي أبو القاسم حاتم الأكارم وقاسم المكارم وكان هذا القاضي أمين الدين بن حبيش لم يزل ذا سجية وعيشة رخية فإذا وصل إلى حماه سلطان أو أمير أو معروف أو كبير دعاه إلى ربعه وأجراه على كريم طبعه فإن لم يزره زارته تحاياه وقرته في مخيمة تحفه وهداياه وله من القلوب أتم القبول ولكل نازل به أهنئ نزل وأكرم نزول. ولهذه الشوافع لم ترد له عند السلاطين والأكابر شفاعة ولم يعر شيئا من حقوقه المصونة إضاعة. ولم يكن هذا القاضي متوليا لعمل ولا قضاء ولا حكم له في إنفاذ ولا إمضاء وكان قانعا بحدى ملكه ويستثمره بفضل جاهه ويفوق المعروفين بتيقظة وانتباهه.