قال: كانت الفرنج في النوبتين اللتين استعان بهم شاور على أسد الدين قد شاهدوا الديار المصرية واطلوا على العورات وكشفوا المستورات وطعموا في البلاد وتجمعوا لها بالأحشاد وتوجهوا إليها سايرين وشايعتهم على قصدهم من أعيان مصر جماعة ما كانت للمصرييين طاعة وشاوروا الفرنج على شاور لأنهم اعداؤه وقد أعياهم دواه وهم ابن الخياط وابن قرجلة وأمثالهم وتوجهوا من عسقلان في النصف من المحرم ووصلوا إلى بليس أول يوم من صفر واستولوا على أهلها قتلا وأسرا وأقاموا بها خمسة أيام ثم أناخوا على القاهرة في عاشر صفر وأحرق شاور مصر اليوم التاسع منه وخاف عليها من الفرنج وبقيت النار تعمل فيها إلى خامس شهر ربيع الأخر وكان غرضه أن يأمن عليها من العدو الكافر ثم ضاق الحصار وعرف شاور أنه يضعف عن الحماية وأن مبدأ الحفظ لا يصل إلى الغاية فشرع في تمحل الحيل فأرسل إلى ملك الفرنج يبذل له المودة وقال أمهلني حتى أجمع لك الدنانير وأطعمة في ألف ألف دينار معجلة منجمة ثم قال له: ترحل عنا وتوسع الخناق وتظهر الأرفاق وعجل له مائة ألف دينار حيلة وخداعا وواصل بكتبه إلى نور الدين مستصرخاً ومستنفراً وبما نال الإسلام من الكفر مخبرا وسير الكتب مسودة بمدادها كاسية لباس حدادها وفي طيها ذوايت مجذوذة ظن أنها من شعور أهل القصر للأشعار بما عراهم من بليه الحصر وأرسلها تباعاً ورادف بها نجابين سراعا وعامل الفرنج بالمطال وبالارسال حتى أتى الغوث ولما سمع أسد الدين بخبر الفرنج ساق من حمص في ليلة واحدة إلى حلب وقال لنور الدين أن الفرنج قد استحكم في البلاد المصرية طمعهم، وليس سواك في الوجود من يزحمهم ومتى تجمع العسكر وكيف تدفعهم فقال له: أن خزانتي لك فخذ منها ما تريد وأطلق في العاجل مائتي ألف دينار وأمر خازنه ولى الدين إسماعيل بأن يوصل إليه كثير ما يلتمسه والقليل. فمضى نور الدين لتسلم قلعة جعبر ومضى أسد الدين وحشد التركمان ولما عاد استقل نور الدين إلى دمشق وقدم صلاح الدين إليها السبق وكان وصوله إليها بكرة الأحد التاسع والعشرين من صفر وخرجنا إلى الفور وأسد الدين هناك في العسكر الجرار وأطلق لكل فارس عشرين ديناراً وعرضنا أكثر من خمسة آلاف (١١٧٠) من الرجال الأبطال وأضاف إليهم نور الدين ألف فارس من أمراء مماليكه عز الدين جرديك وغرس الدين قلج ومن أمراء خواصه عين الدولة ابن كوخات وينال بن حسان ومن شذ عني ذكرهم واجتمع في يوم كتاب الديوان والبيوت والأمراء وركبت العساكر في تلك الصحراء في عددهم الموفورة وألويتهم المنشورة فعرضناهم في ساعة واحدة بأقلام متعددة ورحلوا على قصد مصر في نصف شهر ربيع الأول وخيم نور الدين فيمن أقام معه برأس الماء نازلاً بمنزلة الفقيع على تلها مقيماً إلى أن يأذن الله في تلك العقدة بحلها فوصل المبشر برحيل الفرنج من القاهرة عند وصول خبر وصل العسكر فسيرنا كتب البشاير بالفتح والظفر.
[ذكر ما اعتمده أسد الدين عند وصوله إلى مصر]
وكأن وصوله إليها في سابع عشر ربيع الآخر قال: ولما سمع الفرنج نهوض عسكر الإسلام أجفلوا إجفال النعام ورحل ملكهم إلى بلبيس ثم عاد إلى الساحل ودخل أسد الدين في التاسع منه إلى الإيوان وخلع عليه وفي العاشر منه نزل أهل مصر وسكنوها وتودد شاور إلى أسد الدين وتردد وتجدد بينها من الوداد ما تأكد فقال صلاح الدين هذا أمر يطول ومسألة فرضها يعول ومعنا هذا العسكر الثقيل ولا استيلاء شاور ولا سيما إذا راوغ وغارر فأنفذ أسد الدين الفقيه عيسى إلى شاور وقال: أخشى عليك ممن معي من الناس فلم يكترث بمقالة وركب على سبيل انبساطه واسترساله فاعترضه صلاح الدين في الأمراء النورية فبغته وشحته وقبضه وأثبته ووكل به في خيمة ضربها له وحاول إمهاله فجاء من القصر من يطلب برأسه، جاء الرسول وأبوا أن يرجعوا إلا بنجح السؤل فحم حمامه وحمل إلى القصر هامة وذلك يوم السبت سابع عشر ربيع الآخر وتقلد أسد الدين الوزارة واستقل بأوزارها وعاد بالقاهرة إلى دارها ونعت بالملك المنصور ولما جاء المبشر إلى الشام كتبت إليه أهينه بقصيدة أولها:
بالجد أدركت ما أدركت لا اللعب ... كم راحة جنيت من دوحة التعب
أفخر فإن ملوك الأرض قاطبة ... أفلاكها منك قد دارت على قطب