قال: خرج في النصف من شعبان ومعه الفيل والحمارة العنابية والذخاير النفيسة التي انتخبها من خزائن القصر وقد سبق ذكر تسييرها إلى نور الدين ووصلت الحمارة وكثر لهم النظارة، وأما الفيل فانه وصل إلينا في سنة تسع وستين ونحن بحلب فأهداه نور الدين إلى ابن أخيه سيف الدين غازي صاحب الموصل ثم سيره نور الدين إلى بغداد هدية للخليفة وسير نور الدين الحمارة إلى بغداد مع هدايا وتحف سنايا.
وأما صلاح الدين فانه أقام على تلك الحصون وأدار عليها رحى الحرب الزبون ولم يبرح حتى برح بها عنها وعربها وخرب عمارتها وشنت على أعمالها سرايا بغاراتها ومن جملة عربانها الذين رغبهم وسيرهم إلى الشام نور الدين صلخد بنو عباد فانهم وصلوا في مائتي فارس من أبطال الحرب وكماة الطعن والضرب ووصل على أيديهم صلاح الدين الفاضلي ونسخته.
سبب هذه الخدمة إلى مولانا الملك العادل أعز الله سلطانه ومدّ أبداً إحسانه ومكن بالنصر أمكانه وشيد بالتأييد مكانه. علم الملوك بما يؤثر المولى أن يقصد الكفار بما يخمص أجنحتهم ويقلل أسلحتهم ويقطع موادهم ويخرب بلادهم وأكثر الأسباب المعينة على ما نرى أن لا يبقى في بلادهم أحد من العربان وأن ينتقلوا من ذل الكفر إلى عز الإيمان ومما اجتهد فيه غاية الاجتهاد وعده من أعظم الأسباب ترحيل كثير من أنفارهم والحرص في تبديل ديارهم إلى أن صار العدو اليوم إذا نهض لا يجد بين يديه دليلاً ولا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلاً ولو كان هؤلاء العربان يرغبون في الديار المصرية لكان يحمل كلهم ويسوقهم كلهم ولكن هواهم في الشام ورغبتهم في بلاده دون غيرها من بلاد الإسلام. ولو أن المولى خلى لهم إقليماً وأقطعهم إقطاعاً عظيماً ليقطعهم عن الكفر وبلاده ويبعدهم عن تكثير سواده لكان في ذلك قد أحسن فعلاً وحمل عن المسلمين ثقلاً فكيف وهم يخدمون في البلاد خدمة من عرف مدالجها وخبر طرقها ومناهجها فما يدعون جهداً في أخرابها وشن الغارة عليها متواصلة الفتك فيها.
[ذكر بعض المتجددات في الشام]
قال: حضرت عند الملك العادل نور الدين بدمشق في العشرين من صفر والحديث يجري في طيب دمشق ورقة هوائها وبهجة بهائها وإزهار رياضها وأنها كزهر سمائها وكل ما يمدحها ويطريها فقال نور الدين أنما حب الجهاد يسليني عنها فما أرغب فيها، قال: فارتجلت في هذا المعنى فقلت: ليس في الدنيا جميعا بلدة مثل دمشق ويسليني عنها في سبيل الله عشقي
قال: واتفق أن خرج كلب الفرنج اللعين في جنود الشياطين يقصد الغارة على ناحية زرا من حوران وأناخ بأول ليلة بقرية بسمكين ووصل الخبر إلى نور الدين وهو نازل بالكسوة إليهم وأقدم بعساكره عليهم فلما عرفوا وصوله رحلوا إلى منزلة الفوار وأصبحوا بكرة السبت غرة شهر ربيع الأول راحلين إلى السواد صارفين أعنة الجياد عن أسنة الصعاد وشلتهم مقدمة عسكرنا حتى نزلوا بالشلالة ونزل نور الدين بعشترا وأنفذ سرية إلى أعمال طبرية ولما عادت لحقها الفرنج عند المخاضة فوقف الشجعان (١٧٥ب) وثبت من ثبته الإيمان حتى عبرت السرية بجمالها وعادت وقد نصرت صوارمها ونفدت لهازمها ولما أنهضنا السرية رحلنا من عشترا وخيمنا بظاهر زرا.
قال: وكنت عند مسيرنا إلى اللقاء لنور الدين مسايراً وله مجاوراً وهو يقول كيف تصف نهوضنا إلى الجهاد وسواد وجوههم بدخولهم في السواد وهو يبتسم وقد تقدم أمراؤه إلى المعركة ويقول لم أرك قوي القلب وأقول وكيف لا يقوى قلبي بخدمتك وأنا في عصمتك هذه القصيدة في وصف الحال:
عقدت بنصرك راية الإيمان ... وبدت لعصرك آية الإحسان
قلت منها:
كم مصعب عسر المقادة قدته ... نحو الردى بخرا يم الخذلان
ومنها:
وعلى غناء المشرفية في الطلا ... والمهام رقص عوالي المرأن
وكأن بين النقع لمع حديدها نار ... تألق من خلال دخان
غطى العجاج به نجزم سمائه ... لتنوب عنها أنجم الخرصان
ولوا وقلب شجاعهم في صدره ... كالسيف يرعد في يمين جبان
يمتاح من قلب القلوب دماها ... بالسمر منح الماء بالأشطان
فمن العراق إلى الشام إلى ذرى ... مصر إلى قوص إلى أسوان
لم تله عما في البلاد وإنما الهاك ... فرض الغزو عن همذان