وجاء السلطان وهو مغتاظ ومعه من أصحاب الموتورين قوم غلاظ فأحضر وأمر بقطع يده، وكان المأمون بإقامة تلك السياسة حسام الدين سنقر الخلاطي روهو كامل الكياسة فقلت له بمسمع من السلطان سهل ساعة لعله يقبل مني شفاعة، ثم هلت هذا لا يحل وقدرك بل دينك عن عهدا بحل وما زلت أكرر عليه الحديث حتى تبسم، وشاهد عبوسي فنشر، ورجع عما به ثم أمر بحبسه، ودخل ناصر الدين بن أسد الدين وكلح وبسر ودمدم وزمجر وقال لما لا يقتل ولماذا أعتقل فوعظه السلطان وسكن غيظه ثم أطلق سراحه وتم نجاحه.
[ذكر النزول على حلب منتصف ذي الحجة]
قال: ولما أمنا من جانب عزاز وجدنا من الله في عدته النجاز سرنا إلى حلب ونزلنا عليها عند حاضر الياروقيه، والسلطان يركب كل يوم مع العسكر، وربما طاف حول البلاد وتأمل أسواره، وأستوضح بعيانه أسراره، وأقمنا نتصرف في الأعمال ونصرف العمال لجباية الأموال، والبلد في ضجيج وأجيج وأمر مريج، وسب تشنيع وتجنيس في القد وتطبيق وتنويع فما تم إلا ألسنه تعيث وطبول تستغيث والمراسلة بالقول العنيف، ومواصلة بالتنفيذ والتعنيف والسلطان لا يهمه غمهم ولا يغمه همهم ويزيد بحمد الناس له ذمهم، وقد علم أنهم جاهلون بنيبهم ذاهلون وأنه سوف ينبوا حدهم ويخبو وقدهم قال: وكان حصن حارم قد تولاه سعد الدين كمشتكين وأشفق عليها، ومضى إليها خوفا من النزول عليها وما ظن أن السلطان يعجل من عزاز النجاز فلم يرى منها إلى حلب الجواز فلما حضرناه وحصرناها ضاق كمشتكين بالمقام في حارم ذرعا فعاد يمتري في الضراعة إلينا ضرعا ويقول: لوفسحتم لي في دخول حلب لقضيتم من وفائي بشرط خدمتكم العجب وهو يخشى أنه إن أستمر هنا مقامه بطل في سلك جماعته انتظامه، وتفردوا دونه بما يصدرونه ويوردونه، وهو على النار الحاميه وعساكرنا قد أخذت عليها الطريق فكتب إلى السلطتن يسأله أن يرفع عن نهجه الحجر، وكتب إلى الحلبيين يسألهم أن يراسلوا في أمره فراسلوا السلطان في شأنه وأن يقلدهم من إجازته طوق امتنانه فإنه أول حضوره يبتدئ بالوصول إلى حضرته والمثول لخدمته وقرروا على أنفاذ معروف رهينه تقيم عنده إلى أن يدخل عليهم ويستوفي عليهم في اليمين عقده ونفذوا بحكم الرهن نصرة الدين بن زنكي حتى يدخل الرسول ويخرج فأمرني بالدخول بصحبة الرسول وهو شمس الدين الوزير أبي المضاء فلما دخلوا أبعدوا عنا الغلمان وأفردوني ورفيقي في مكان ضيق بغير اسراج ولا مرفق ولا بساط ولا كساء ولا خبز ولا ماء وبتنا بليلة الغدر ونحن جياع عطاش ولا لحاف ولا فراش وعندنا جماعة يحرسون فإنهم يشتمون ويشمتون، ويلعنون ويطعنون، وما أنسنا حتى تبسم الفجر وقلنا لعله يرتفع الحجر. (١١٨٤) فأحضرنا عند الملك الصالح وعنده ابن عمه عز الدين مسعود أخو صاحب الموصل وكان عملوا نسخة يمين فما نظرت في شرط ولا تعيين فحلفناهم كما أرادوا وسكتنا فيما نقصوا وزادوا وخرجنا إلى غلماننا ودوابنا وهم في أخر نفس وخرجنا إلى السلطان كأن قد نشطنا من قيد وعر ضنا النسخة وقلنا له كل من حلف بهذه اليمين يمين ولا كانت حلب ولا كمشتكين.
قال: وجاء كمشتكين وعبر أمنا ولم يزل منافقا مداهنا وعاتبني السلطان وعصب بي جرمهم وألزمني حكمهم ثم عرف الحال وألان المقال وعاد أليهم رهنهم. وتوبتنى تلك النوبة وصحت الإنابة وما حدثت نفسي بعدها برسالة ولا تعرضت لعثار يحوجني إلى استقالة، ورفهت قدمي ووجهت قلمي أتوسل بالخط لا بالخطى واسطوا بقلمي الداري على نوى السطى وأرسل الرسل برسايلي ولا أخرج من فضاء فضايلي ولا أدخل في لواذع عواذلي قال:
[ودخلت سنة اثنتين وسبعين]
والسلطان بظاهر حلب مقيم وللمصابرة في حصرها مستديم، وكنتا نؤثر أن تصير الكلمة واحدة، والألسنة لسنة الجحود جاحدة، والملك الصالح من حكم الخارجين خارجا حتى يتولاه السلطان بالتربية ويبادر إلى ندائه بالتلبية. لكن قومه قاموا بالإصرار على الإصرار، وسدوا عن مطالعة سبيل الأنوار ثم عادوا إلى السلطان مستعطفين وللاحسان مستسعفين وعرفوا أن العقوبة أليمة، وأن العاقبة وخيمة فدخلوا من باب التدلل والتذلل ولاذوا بالتوصل والتوصل واظهروا التودد، وأكثروا التردد، وحضروا بأذهانهم بعدما غابوا واعترفوا بأنهم أخطأوا وما أصابوا.