للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال: وقد كان متملك الأرمن بن لاوان فاستمال قوما من التركمان حتى يرعوا في مراعي بلاده بالأمان ثم صبحهم بغدره وحصلوا بأسرهم في أسره، وكثرت شكاية المسلمين من نكايته فرأى السلطان أن الأولى دخول ولايته فسرنا بعساكرنا المنصورة وخيمنا على النهر الأسود وثمرنا على دياره بالدواير وبالقرب دنا على الجبل قلعة شامخة الذرى على رأس محفوفة من نبات الأفلاك بأحراش، وهي من عقايل المعاقل محصنات الحصون، وكانت في ضمير الجبل كاسر المصون فأضرمها الأرمن ناراً ولم يحسب مع استفرادنا بداره قراراًَ فقصدناها وبادرنا إلى إخراج غلاتها وإبراز مودعاتها فأشفع العساكر منها بالزاد والعلف وارتفع عنهم مدة المقام أثقال المون والكلف وخاف الأرمني ودخل الرعب قلبه فأرسل باطلاق الأسارى مذعناً وبذل من مجهود في الإسترضاء والاستعطاف ما كان ممكناً وكان الوقت متعسراً والقوت متعذراً وكان من لطف الله اذعان الأرمني حتى عجلنا رحيلنا بالنصر والعز الهني.

وعملنا على أعمال حلب، ووصنا إلى حماة في العشر الأوسط من جمادى الآخرة، ووصنا إلى حمص وخيمنا على عاصيها، ودانت لنا عواصي الأمور ودنت قواصيها، والمطاب قد أشرقت مطالعها، والمآرب قد ملكت نواصيها.

قال: وجاء الفقيه المهذب بن أسعد الموصلي بمديحة على الرسم وكان غزير الفضل وافر العمل، ورسمه كلما عبر السلطان بحمص مائة دينار مصرية وخلعة مثمنة فمما مدح به السلطان قصيدة مطلعها:

أما وجفونك المرضى الصحاح ... وسكرة مقلتيك وأنت صاح

وما في فيك من برد وشهد ... وفي خديك من ورد وراح

لقد أصبحت في العشاق فردا ... كما أصبحت فردا في الملاح

يقرب جودة أقصى الأماني ... ويضمن بشره أسنى النجاح

ومبسوط بنايلة يداه إذا ... انقبضت به أيدي السماح

فمن هرم وكعب وابن سعدى ... رعا الشاء والنعم المراح

(٢. ١ب) جواد بالبلاد وما حوته ... إذا جادوا بألبان القداح

[ذكر وفاة شمس الدولة أخي السلطان في هذه السنة]

قال: وتوفي الملك فخر الدين شمس الدولة تور أنشاه أخوه السلطان بثغر الإسكندرية في المحرم سنة ست وسبعين ووصل الخبر والسلطان بظاهر حمص فجاد مزن حزنه بالقطرات، وفاضت عين عينه بالعبرات وتقلص ظل صبره وتنقص ورد عمره وخلا ذلك اليوم في بيت خشبة يندب فضل أخيه في كرمه وحسبه وأستدعى كتباً في المراثى متألماً يتأملها، وكان كتاب الحماسة على حفظه فدام ينشد أبيات مراثيها، وينشد ضالة معانيها، وهو يتأسى ويتأسف ويتلب ويتلهف.

وكان شمس الدولة أكبر أخوته قد فضلهم بجوده وفضله ومروته، وهو لا يبقي مالا ولا يذر وكم اقتضت من غرايب رغايته وأبكار مواهبه العذر. ولما ملك صلاح الدين مصر رأى أن تلك الممالك لا تفي بمكارم أخيه وأن كل من يدخر لهم جوده لا يبقيه فجهزه إىل اليمين في سنة سبع وستين ففتح بلادها وحاز طرافها وتلاها ثم لما ملك الشام استدعاه وجرى من الأمر ما ذكرناه ونوابه في زبيد وعدن وساير بلاد اليمن جارون على السنن ويحمل إليه من أمواله ما يحمله عن خزانيه الجود على أنه يضيق عن همته السمحة الوجود.

وودعه في آخر سنة أربع وسبعين وسار إلى الديار المصرية وحكمه في أعمال ثغر الإسكندرية واتفقت وفاته بها. قال: ولقد كان مقبلاً على ومايلاً إلى ولى فيه مدايح ومنها مدحه خدمته بها عند وصوله من اليمن ولقائه للسلطان في حماة يوم الثلاثاء ثاني صفر سنة اثنتين وسبعين وأنشد يوم السبت سادسه بالمخيم في الميدان وهي التي أولها:

صب لتذكار أهل الجزع ذو ... جزع أطاعه دمعه والصبر لم يطلع

وكان يطمع في طيف وقد بان ... الرقاد فما في الطيف من طمع

يا لايما يدعى نصح المحب ولم يترك ... له وجده مسمعا ولم يدع

أتعبت نفسك تنتهي غير متبع ... حكم الملام ويلحى غير مستمع

أن يجدى لومى فكم في الجود عاشقه ... تور أنشاه كلانا غير مرتدع

هو الجواد الذي عشق السماح به ... أفضى إلى أمد في الجود مخترع

يارايدا للخطب أن تقصد ذراه تجد ... في ظله خير مصطاف ومرتبع

قال: وكتب شمس الدولة إلى السلطان قبل وصوله بخطه كتابا ضمنه هذين البيتين:

كتبت ولولا أن قلبي واثق ... بقرب التلاقي وما حوته الأصابع

<<  <   >  >>