فأني لما رأيت أبلغ المراتب وأنجح الوسائل إلى خدمة مولانا السلطان الملك المعظم ملك ملوك العرب والعجم أبي الفتح عيسى بن السلطان الملك العادل أبي بكر بن أيوب لا زالت سماء الجلالة موشحة بدراري سيره الزاهرة ومطالع الإقبال منورة بأشعة مكارمه الباهرة، والتمسك بعصم العلوم وأهداب الآداب والتوسل بإخراج درر الكلم من لجج الحكم الطامية العباب. حبست نفسي ووقفت نفسي مشيعاً مآثر حضرته العالية، سالكاً مناهج الإخلاص في السريرة والعلانية. فالجنان يضم الولاء النافع، واللسان ينشر الثناء الشايع، والبنان يحرر بل يجيز من مدحه الوشايع أفرغ الاستطاعة جرياً على مقتضى الخدمة والطاعة فيما يرجع بتخليد آثار بيته الكريم، ويعود بأعلى صيته العظيم في نظم تطبق فضائله اللآفاق وتملأ بمناقبه خراسان والعراق، ونثر ينشر حلل معاليه في محافل السلاطين وأندية الملوك، ويبث عرف أياديه وينظم عقد مساجيه مثل العنبر المفروك والجوهر المسلوك.
ولما ترجمت لخزانته العالية كتب شهنامة التي توجت فيه سير الملوك والسلاطين الأقدمين يغير مفاخرة وفضلت قلايد مناقبهم وعقود مكارمهم بزهر مآثره نظرت في الكتاب الموسوم بالبرق الشامي للأمام السعيد عماد الدين الأصفهاني فوجدت عمايمه تتدفق بأنواع الفوايد، وكمايمه تتفتق عن أنوار الفوايد، تحتوي من البلاغة على إبكارها وعونها، وتشتمل من البراعة على غررها وعيونها، فيه من السير السلطانية الناصرية والعادلية وساير الدوحة الكريمة الأيوبية ما ينطبق على مثله كثير من الكتب المصنفة في التواريخ والسير القديمة منها والحديثة. لكنني وجدت درر مقاصدة مكنونة في بحار أسجاعه المتلاطمة الأمواج، ورأيت غرر فوايده مغمورة في غمار أوصافه المتتابعة الأفواج ما بين قراين تشابكت قرون لواحقها في إصلاء سوابقها، وأفانين تشاجرت فنون أغصانها في أرجاء حدايقها، فشذبت شجيراتها أدنيت جنا جناتها لقاطفيها وجناتها، واقتصرت منها على ألفاظ هي كالمعارض لخرايد معانيها الرايقة، وكالواسطة في قلايد قراينها المتناسقة، وكشفت أطباق حجبها بل استار سحبها عن محتلى دراري سماتها، وأرحت قساطل خيلها وغياطل ليلها عن مطالع مسمياتها، وتباشير أسمائها ولم أحم من الكتب النشأة في الوقايع المذكورة إلا حول جهة من الكلم الجليلة الفاضلية، ونبذ من الكتب البديعة العمادية سالكاً مسلك الاختصار وناهجاً منهج الاقتصار ثم وقفت له رسالتين في ثلاث مجدات وسم احدتهما بالعقبى والعتبى وهي مشتملة على ما جرى بعد الأيام الصلاحية مدة ثلاثة سنين، ووسم الثانية بخطفة البارق وهي محتوية على الوقايع التي جرت من مفتتح سنة ثلاث وتسعين إلى رمضان سنة سبع وتسعين وفيها تصرمت أيامه رحمه الله.
(١١٦٤) فرأيت أن أذيل بما أنتخبه منهما هذا المختصر لاشتمالهما على طرف من السير الكريمة العادلية أنار الله برهانها ولمع من مطالع أنوار دولة السلطانين العادلين مولانا الملك الكامل ومولانا الملك المعظم خلد الله سلطانهما وأعز أنصارهما وأعوانهما ونتف في مدايحهما الزاهرة ومحامدهما الباهرة ونبذ من أحوالهما في مفتتح جلالهما ومقبل إقبالهما وريعان سلطانهما وعنفوان شأنهما خدمة منى للمواقف الكريمة والعتبات العالية وقضاء لبعض حقوق نعمهما العايدة البادية وأياديها الرابحة العادية وسميته سنا البرق الشامي واستعنت في ذلك وفي جميع أموري بالله سبحانه وتعالى وهو حسبي ونعم الوكيل.
[[مقدمة العماد الأصفهاني]]
قال الأمام العالم ذو البلاغتين عماد الدين ابو عبد الله بن محمد بن محمد ابن حامد الكاتب الأصفهاني رحمه الله في صدر كتابه الموسوم بالبرق الشامي وبعد فإن الكريم من عرف حق المنعم عليه وشكر فضل المحسن إليه وإذا خدم مخدوماً أوجد كرمه بذكره وان صار معدوماً وعرف من بين ما عرفه ما كان مكتوماً ومن استكفاني بالإنشاء لتنفيذ أوامره في حياته كافية بالأحياء في إنشاء مفاخرة في مماته وهو الملك الناصر صلاح الدنيا والدين ابو المظفر يوسف بن أيوب رحمه الله. فأني صحبته فكان خير مصحوب، وخطبت وده فألفيته الآن مخطوب، ولما انقضى عصره وانقضت عمره