قال: وعاد السلطان إلى القاهرة وأقام بها ثم تقاضته عزمته واهتمت بالغزاة وجد بالجهاد وجده وجهده وجردت سربجياته وأسرجت جرده وقلقت بغرارية أجفانه وفاضت على النحور غدرانه, وتلبست بالأجسام أبدانه, وصافحت أشجع الشجعان صفاحه, وأسفر في ليل العجاج من غرر وهمه صباحه وخرج من القاهرة يوم الجمعة ثالث (١٨٩ أ) جمادى الأولى بعد الصلاة وخيم بظاهر بلبيس في خامسها بخيمته لقصد الغزاة, ثم تقدمنا إلى السرير وخيمنا بالبرز, قال: ونودى خذوا زاد عشرة أيام أخرى زيادة للاستظهار, فقلت لغلامي قد بدأ وقد خطر الرجوع ببالي وأنا صاحب قلم لا صاحب علم وقد استشعرت نفسي في هذه الغزوة من عاقبه ندم, والمدى بعيد والخطب شديد والطريق كله في الرمل وجمالي وبغالي لا تقوى على الحمل وهذه نوبة السيوف لا نوبة الأقلام والواجب على كل منا أن يلزم شغله ولا يتجاوز محله لاسيما ونواب الديوان قد استأذنوا في العود وأظهرت سرى للمولى الفاضل فسره إشفاقا علي.
وكان السلطان أيضا يؤثر إيثاري ويختار اختياري فقال أنت معنا أو عزمت أن تدعنا فقلت العزم للمولى وما يختاره لي فهو أولى, فقال تعود وتدعو لنا وتسأل الله أن يبلغنا في القصر سؤلنا. قال وكنت كتبت إلى المجلس الفاضلي أبياتا ونحن بالمبرز يوم الاثنين العشرين من الشهر مما على سبيل المداعبة ومنها:
قيل لي سر إلى الجهاد وماذا ... بالغ في الجهاد جهد مسيري
ليس يقوى في الجيش جأشي ... ولا قوسي يرى موترا إلى موتور
قال: وما انقطعت عن السلطان في غزواته إلا في هذه الغزوة, وقد عصمني الله فيها من النوبة. قال: وكنت لما فارقت القاهرة استوحشت وتشوقت إلى أصدقائي وتعطشت. وكتبت من المخيم ببلبيس إلى القاضي شمس الدين محمد بن محمد موسى بن الفراش اذكر له لوا عج الاستيحاش وكان أصدق صديق وأشفق شفيق وقد تصاحبنا من الأيام النورية واستشرته في التأخر عن السلطان فكتب في الجواب وقال: رافقه ولا تفارقه فإنه يعرف لك حقك فكرهت رأيه وتلوت سور الخطر وأية وضمنت الكتاب هذه الأبيات:
إذا رضيتم بمكروهي فذاك رضا ... لا أبتغى غير ما تبغون لي غرضا
وإن رأيتم شفاء القلب في مرضي ... فإنني مستطيب ذلك المرضا
أنتم أشرتم بتعذيبي فصرت له ... مستعذبا أستلذ الهم والمضضا
إن رممتم عوضا في محبتكم فحاشى ... لله أن أبغي بكم عوضا
الله عيش يقضي عندكم ومضى ... وكان مثل سحاب برقه ومضا
قد أظلم الأفق في عيني بغيبتكم ... فإن أذنتم لشخص في الحضور أضا
ما كنت أعهد منكم ذا الجفاء ولا ... حسبت أن ودادي عندكم رفضا
قال فكتب إلى في الجواب أبياتا منها:
أرسلت سهم عتاب قد جعلت له ... قلبي وإن لم تكن عينته غرضا
لا تنسبوني إلى إيثار بعدكم ... فلست أرضى إذا فارقتكم عوضا
عاد الحديث قال: ثم ودعت السلطان وعدت وما تأخرت إلا إلهاما من الله تعالى بالنجاة من تلك الورطة حيث حكم في تلك النوبة بالعثرة, ورجعت وأنا بين عادل وعاذر وناه وآمر ثم رحل في سلطان مقدما ولعزمه في الجهاد مصمما وسار في جيش مجر من سواد القتام في ليل ومن بياض البيض في فجر, ومن حب الغزو في وصل ومن سلو الحياة في هجر فنزل على عسقلان يوم الأربعاء التاسع والعشرين من جمادى الأولى وسقاهم من الموت فسبى وسلب وغنم وغلب وجمع من كان معه من الأسارى هناك فضرب منهم الأعناق وسقاهم من الموت الكأس الدهاق, وتفرق الفرق في الأعمال مغيرين ومبيدين ولما رأوا أن الفرنج نايمون خامدون استرسلوا وانبسطوا (١٨٩ ب) وناموا وأقاموا وتوسط السلطان البلاد وسلط عليهم البلاء.